إذا كان الحوار حول موضوع الخلافة قد أتى مهذبًا بين النحاس باشا وحسن البنا بسبب المكانة الرفيعة للنحاس باشا، فإن الحوارات الأخرى التي تناثرت حول هذا الموضوع لم تكن كذلك. خصوصا ذلك الحوار بين سلامة موسى والشيخ رشيد رضا، فسلامة موسى يكتب في “,”المجلة الجديدة“,” قائلًا “,”إن من يتأمل أحوالنا الآن في مصر والشرق العربي يجد فئتين تتغالبان الزعامة في الرأي، إحداهما سلفية تقول باتباع السلف الصالح وتنسب إليه أفضل الخصال وتلتزم بالتقاليد المأثورة، والأخرى فئة المجددين الذين يقولون بالتطور حين يعتدلون، أو بالثورة حين يُغالون. ومن الغلو أن ينسب السلفيون حميد الخصال إلى السلف دون الخلف لأن الإنسانية تتدرج في الرقيّ، ولو كان السلف أصلح منا لوجب أن نبقى ملازمين لتلك الحضارة البدائية، ويجب أن تكون لنا تقاليد تشبه الوراثة في صون كيان الأمة وتجديد يشبه التطور في العمل للرقى“,” [المجلة الجديدة – العدد الثاني – ديسمبر 1929 – مقال لسلامة موسى بعنوان: السلفيون والمجددون – ص 145] وفي عدد آخر في المجلة الجديدة يكتب سلامة موسى “,”إن الحضارة كتلة متماسكة فلا يمكننا أن نأخذ بعضها ونترك البعض الآخر، مثال ذلك أننا لا يمكننا أن ننشر الصناعة بيننا وننتقل من الطور الزراعي إلى الطور الصناعي دون أن نعطي المرأة حريتها لأن هذه الحرية التي اكتسبتها المرأة في أوروبا هي ثمرة النظام الصناعي الذي يعيش فيه الأوروبيون“,” [المجلة الجديدة- العدد الثالث – يناير 1930-ص 380].
ورغم هذه الكلمات الرصينة والخالية من أي تهجم فإن الشيخ رشيد رضا قد تجاوز كل الحدود في هجوم ساحق على صفحات “,”المنار“,”، اتهم فيه سلامة موسى بأنه يتخذ هذا الموقف لأنه مجرد نصراني وكافر ملحد. وتشتعل المعركة فيرد سلامة موسى قائلًا “,”يعيش الشيخ رشيد رضا يسب المجددين المصريين ويتهم بالكفر مخالفيه، وهو يتمرغ الآن في الضِّياع والعقارات التي جمعها بالنعرة الدينية، وقد يتساءل الإنسان هل هذه غيرة للدين أم غيرة للعيش؟“,” ويمضي سلامة موسى مهاجمًا محيي الدين الخطيب الذي شارك هو أيضا في الهجوم عليه فيقول “,”إنه شاب ليس فيه خبث الشيخ رشيد وللشباب سذاجته، ولكنه يسير في خطة عوجاء لا بد أنها ستنتهي به إلى أشرّ مما انتهى إليه الشيخ رشيد، وهو يصدر مجلتين يستخدمهما في الطعن في كلٍّ من طه حسين وعلي عبد الرازق وأمثالهما من شباب مصر الراقي، ويدأب أسبوعًا على ذلك حتى ليظن القارئ أنه ينوي بهما شرًّا عظيمًا أو يريد منا أن نطردهما من وطنهما مصر“,” [المجلة الجديدة – العدد الرابع – فبراير 1930- ص 422]. ويرد رشيد رضا في قسوة ويستخدم ذات الألفاظ “,”نصراني – كافر – ملحد“,”، فيأتي سلامة موسى بشتائم ربما كانت جديدة على قاموس الحوارات الصحفية وبالذات هذه الموضوعات فيقول: هذا الرجل رغم أنه موظف في الحكومة المصرية الآن ليس في دمه قطرة من الدم المصري [والمعلوم أن رشيد رضا شاميّ الأصل]، وهو إخصائي في السب والشتائم يمينًا ويسارًا بلا حساب، وبسلاطة يحسبها بلاغة، فيقول عن العقاد إنه كاتب مراحيضي وعن طه حسين إنه جاهل، وله غارات على شخص المحرر لهذه الكتابة فهو في نظره كافر وشيوعي ونصراني مدسوس على الإسلام وإباحيّ.. إلخ. أما عن الكفر فإني أدلهم على إيماني فهو إيمان الدكتور هيكل ومحمود عزمي وعزيز ميرهم، بل إنه إيمان معظم الشباب المصريين الذين درسوا شيئًا من العلوم العصرية، ولا يمكن أن يسمَّى أي منهم كافرًا، إذ إن لكل منهم صوفيته الدينية أو الفلسفية أو الأدبية، وأما أني نصراني مدسوس على الإسلام فالرد عليه سهل وهو أن الإسلام دين بلادي، وواجبي أن أدافع عنه أمام الأجنبي وهذا ما فعلته في كل الظروف. ففي عام 1920 كتب السير هاردي جونسون مقالًا في مجلة (نيو ستيتسمان) يهاجم فيه الإسلام ويطالب بإلغاء الأزهر فرددت عليه ردًّا مفحمًا قلت فيه: مع أنى قبطي أعيش بين مسلمين لا أجد أن الإسلام يؤذي غيرة، بل هو يعمل للتسامح والرخاء. وفي العام الماضي اقترحت الاحتفال بمرور ألف عام على تأسيس الأزهر، وأهمس إليه وإلى أمثاله بأن الجمهور في مصر قد ارتقى، وأن الطنّ في آذانه بأن هذا أو ذاك من الكتاب كافر أو عدو للإسلام أو إباحي إنما يعده الجمهور هذرًا سخيفًا“,” [المجلة الجديدة – العدد الرابع].
لكن الشيخ رشيد رضا لا يسكت ويصدر كتابًا ضد سلامة موسى مليئًا بالشتائم والاتهامات “,”وصدر الكتاب بلا اسم للمؤلف“,”. ويعلن سلامة موسى قائلًا “,”وسألت عن كاتبه في إدارة المطبوعات فعرفت أنه ابن أخ رشيد رضا الصحفي المعروف الذي وفد على بلادنا كما تفد الطواعين وخصّ نفسه بشتم الشبان المصريين واتهامهم بالإلحاد والشيوعية وهكذا بحيث تحتاج إلى أن تغتسل عقب قراءة هذا الكتاب“,” [المجلة الجديدة – عدد يوليو 1930].
والآن آن لنا أن نتوقف أمام ملاحظتين مهمتين: الأولى عن علاقة حسن البنا وجماعة الإخوان برشيد رضا قائد حملة التكفير والاستخدام الطائش للتأسلم السياسي، وهنا نتوقف أمام مقولة شهيرة لحسن البنا يحدد فيها ملامح جماعة الإخوان عند نشأتها إذ يقول “,”نحن سلفيون من أتباع رشيد رضا“,”.. ولأن الجماعة كلها تعتبر نفسها من أتباع الرجل الأكثر تطرفًا في تكفير الليبراليين وكل الخصوم، فإن حسن البنا يؤكد في “,”مذكرات الدعوة والداعية“,” أن مجلة “,”المنار“,” وهي لسان حال رشيد رضا والتي استخدمها في ترويج فكره “,”قد قدمت أجلّ الخدمات للإسلام في مصر وغيرها من البلدان“,” [حسن البنا – مذكرات الدعوة والداعية]، بل إن أحد المتخصصين في تاريخ الجماعة أكد “,”أن البنا كان يتباهى بأن الشيخ رشيد رضا كان على وشك الانضمام للجماعة قبيل وفاته“,”.
[Nadav Safran – Egypt in Search of Political Community –(1961)-P.291 ]
أما الملاحظة الثانية وهى بالغة الأهمية فهي أن هذه الهجمات التكفيرية ضد رموز الفكر الليبرالي والتقدمي قد دفعت الكثيرين للتراجع خطوات إلى الوراء.