تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
عام جديد نخطو أيامه الأولى، فى دورة جديدة لتقويم ممتد، فى إبداع إنسانى يختلق لحظات افتراضية للتوقف والتدبر، ويواجهنا بأسئلة وجودية؛ ماذا بعد؟، هل نملك القدرة على المراجعة الجادة، أم سنظل ندور فى الدائرة اللامتناهية بلا توقف أو تقدم أو تصحيح ما يستوجب التصحيح؟.
هل ننتبه لخيارات الصدام التى اقتحمت أجندتنا بمسوغات أيديولوجية سياسية ودينية، تسفك الدماء وتقتل بزعم حماية الحياة، وتزهق الأرواح بعقل بارد وربما غائب دفاعاً عن خالق الأرواح، أو هكذا يؤمنون!، بينما كانت دعوة الله أن أكثروا وأثمروا وعمروا الأرض التى استخلفنا فيها، فإذا بمنطقتنا تستحوذ على عشق الموت، بينما انحاز غيرنا إلى اختيار الحياة، كانت مصر مصد "الحياة" أمام أمواج ورياح الكراهية، وهى التى تعاملت مع الموت، عبر خبراتها التاريخية قبل آلاف السنين، على أنه مدخل الإنسان للفردوس والملكوت الأسنى قبل أن توثقه الأديان السماوية، فكان كتاب "الدخول فى النهار"، الذى يتناول قضايا العالم الآخر، ووصايا واستعدادات المصرى القديم لعبور مضيق الموت للدخول الى عالم الخلود عالم "النهار الذى لا يعقبه ليل". والذى عرف بالخطأ باسم كتاب "الموتى" وحسناً فعلت مكتبة الأسرة بإعادة نشره ضمن أعمالها عام 2013 باسمه الصحيح.
كانت مصر محل انطلاق الحضارة القديمة بل أم الحضارات، وفيها حصل الإمبراطور الإغريقى الإسكندر المقدونى على دعم كهنة آمون وينصب فى هيكله بواحة سيوة إبنا لرع وينصب ملكاً على مصر، وتمتد سطوته وإمبراطوريته إلى ربوع العالم، بعد أن انشأ مدينة الأسكندرية ومكتبتها التى كانت مقصد العلماء والفلاسفة.
لم يستطع التاريخ أن يرصد الأحداث الكبرى حتى الحرب العالمية الثانية دون أن تحتل مصر موقعاً متقدماً فى تفاصيلها، ومازالت هكذا حتى مع محاولات التقزيم والإقصاء المتتالية والحادة، التى لم تستطع ان تنفذ إلى المنطقة بسبب صمود مصر فى وجه مشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد، ولعلها الوحيدة التى نجت من فخ أعاصير الخريف العربى لتترجمه لحسابها وتسترد وجودها سالماً، لذلك فهى عصية على الانكسار، بخبرة التاريخ.
لعل سر مصر فى وعيها بتفعيل المصالحة، تقاوم المستعمر وتبتلعه ثم تمصر من قبل أن يبقى فيها، يذوب الفرس والرومان والعرب، ويتمصروا، وتنمو مصر، قد تمرض لكنها لا تموت، تتعب لكنها لا تكل، قد تنقطع حينا عن العالم ثم سرعان ما تتواصل بأكثر قوة، إنه سر المصالحة، مع الذات ومع التاريخ ومع العالم، وعلينا أن ننتبه أن فعل المصالحة بات اليوم أكثر إلحاحاً عن ذى قبل، مصالحة مع الذات وجذورنا الحضارية، مصالحة مع تطلعات الأجيال الجديدة وطموجاتها، مصالحة مع قدراتنا وامكاناتنا التى لم نكتشفها بعد، بسبب صخب المستهدفين لها من القوى الرجعية المتصحرة والمتحالفة مع القوى الاستعمارية المتلونة.
لكن هل يمكن أن تتحقق المصالحة مع الذات مع شيوع فكر ـ وفعل ـ الكراهية الذى زرع فى أرضنا ونحن نيام، أو ونحن مشغولون بالفتن التى تقتحمنا، وقد نال منا تجريف متعمد على امتداد عقود، استهدف العقل الجمعى والقطع المعرفى مع جذورنا، عبر منظومات مهترئة تعليماً وإعلاماً وثقافة، كان سلاح التجريف يستقوى بالفساد الذى اخترق منظومة الإقتصاد، ثم يتحالف بدوره مع شيوع انماط فاسدة من التدين المفارق للنسق المصرى، لولا الحراك الثورى الشعبى فى موجتى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، لما كان لنا خروجا مجدداً إلى النهار.
نحن أمام اختبار المصالحة لنعود إلى موقعنا الإنسانى الذى كان، ولنحطم قيود استرقاقنا من اعداء الحياة، وننطلق الى أفاق التنمية بطاقات المصريين، وهذا يستوجب مكافحة الكراهية المنبثة فى ثنايا يومنا، ولنتخذ من عام 2015 الجديد نقطة انطلاق جادة وحازمة وحاسمة فى هذا الإتجاه،
ـ ننقى تعليمنا وإعلامنا وثقافتنا، من دعائم الكراهية،
ـ نعيد الاعتبار للقلم والمسرح والدراما باتجاه قيم التسامح والقبول المتبادل.
ـ نجرم الحض على التمييز ونترجم ما ورد بهذا الأمر فى الدستور الى حزمة من القوانين الدقيقة، حتى نضبط مسارنا الذى وقع فى براثن الفوضى.
ـ نعيد قراءة تجارب سبقتنا غرباً وفى اقصى الشرق، بغير استعلاء؛ كيف واجهوا واقعهم وخرجوا الى نهار الرفاهية والإنسانية.
ـ نسمى الأمور بأسمائها، ونعيد الدين إلى محرابه الأقدس فلا يتلوث ويتلون بالسياسة.
ـ نعيد الإعتبار لقيم العمل والإنتاج والجدية.
ـ نقرر على تلاميذنا فى المدارس دروساً ممنهجة تربطهم بجذورهم التى قطعها المستعمر عبر قرون وأجيال حتى يجفف ذهنية القوة ويفكك منظومة قيم التطور، التى تسجلت على متون جداريات الأهرام والمعابد، ووثقها كتاب "الخروج فى النهار"، انقل لكم بعضا من سطوره، من الفصل 125 منه وعنوانه "الاعتراف السلبى"، لتقف على عمق وعظمة أجدادنا الذين يستنهضوننا لتتواصل مع الخير والعدل والرقى:
::::::::::::::::::::::
التحيات لك أيها الرب العظيم، رب العدل المطلق
جئتك سيدي وجيء بي لمشاهدة كمالك
في ساحة العدل المطلق
جئتك أشاهد جمالك ويداي مرفوعتان (ابتهالا) لأسمك "العدل"
جئتك بالعدل وزهقت لك الباطل
أنا أعطيتُ الحق لفاعله وأعطيت الظلم لمن جاء يحمله
لم أظلم إنساناً
لم أُسئ استخدام حيوان
لم أرتكب حماقة في مكان الحق
لم أعلم بما هو غير موجود
لم أنظر لعورة
لم آتي باسمي قبل اسم الإله
لم أغضب الرب
لم أبدد ميراث اليتيم
لم أفعل شيئاً مما نهاه الرب
لم أشي بعامل عند رئيسه
لم أتسبب في تعاسة
لم أترك جائعا
لم أتسبب في دموع
لم أقتل
لم أحرض على القتل
لم أعذب أحد
لم الوث ماء النهر
لم أنقص قرابين المعبد
لم أستبيح خبز الآلهة
لم أسلب قرابين الموتى
لم أزني
لم أنجس نفسي في الأماكن الطاهرة في معبد إله مدينتي
لم أزد ولم أنقص المكيال
لم أغش في مقياس الأرض
لم أتلاعب في مثقال الميزان
ولم أزحزح مؤشر الميزان
لم أنتزع لبن من فم رضيع
لم أحرم قطيع عن مرعاه
لم أقتنص طيوراً من براري الآلهة ولا سمكة من بحيراتها
لم أمنع ماء الفيضان في موسمه
:::::::::::::::::::::::::
فهل نسعى لمصالحة حقيقية لا تغازلها السياسة ولا تختطفها انتماءات ضيقة، أو تطمسها عواصف الصحراء المجدبة؟! ...
وهل يصبح عامنا الجديد 2015 عام مصالحة مع أنفسنا ووطننا وتراثنا وقيمنا الحقيقية؟!.
عام الخروج إلى النهار؟!..