[email protected]
الدعوة لاحترام العقائد تعني احترام ما يعتقد الآخر أنه مقدس ولا يشاركه المرء في ذلك التقديس. وذلك هو جوهر الفرق بين التقديس والاحترام. إنني علي سبيل المثال لا أقدس البقرة بأي حال ولكني إذا كنت في حضرة بوذي يقدسها فينبغي أن أحترم عقيدته وأحرص علي ألا يصدر عني ما يفهم منه أنني لا أري في البقرة سوي حيوانًا من الحيوانات المسخرة لنا والتي يحل لنا ذبحها وتناول لحمها.
وغني عن البيان أنني إذا كنت لا أشارك الآخر في تقديس ما يقدسه، فليس من شك في أنني لا أري في تلك المقدسات ما هو جدير بالتقديس، ومن ثم فإن إفصاحي عن مبررات موقفي لا بد وأن يحمل تجريحًا وتقليلا من شأن ذلك الآخر وما يقدسه، وليس من شك في أن ذلك “,”الآخر“,” يعرف يقينًا مجمل تلك المبررات سواء أفصحت عنها أو لم أفصح.
ويصبح الموقف آنذاك لا يتعلق بما يؤمن به المرء ولا حتى برفضه لما يؤمن به، ولكن بتبادل التصريح بمبررات الرفض المتبادل وما يحمله ذلك التصريح حتمًا من تجريح متبادل. ولم يعرف التاريخ البشري تجاوزًا لذلك الموقف إلا بإتباع واحد من عدة سبل لعل أهمها:
أولا:
الاحتكام إلي موازين القوي، بحيث يفرض الطرف الأقوى على الطرف الأضعف التزام الصمت وتقبل ما يناله من تجريح عقائدي، وفي هذه الحالة قد يسود الهدوء لفترة ولكن الطرف المقهور يظل متململا يتحين فرصة اختلال موازين القوي لصالحه ليمارس نفس اللعبة.
ثانيا:
“,”التوافق علي الصمت“,” أي أن تتوافق نخب المفكرين من أهل الاختصاص الديني علي عدم الخوض في مبررات رفض عقيدة الآخر، والاقتصار في خطابهم الجماهيري علي طرح القواسم المشتركة أو تجاهل الآخر تمامًا، وقصر مناقشة أمور العقيدة عليهم وحدهم وفي دوائر مغلقة، متوقعين أن يلتزم أبناء المجتمع من العامة بذلك. ولا أظن أن مثل ذلك الالتزام يمكن ضمانه بأي حال، فعبر التاريخ كان العوام في أسواقهم وبيوتهم وتجمعاتهم يتناقشون دائمًا في كل ما يعن لهم شاءت السلطات أو لم تشأ واتفقت نخب أهل الاختصاص أو اختلفت، خاصة في ظل عصر أصبحت فيه نصوص العقائد المقدسة جميعًا وكذلك التهجمات عليها في متناول الجميع؛ إذا لم تكن مكتوبة فهي متوافرة علي شبكة المعلومات.
ثالثا:
“,”التوافق علي تقبل الآخر كما هو بما في ذلك تعبيره عن عقيدته التي لا أؤمن بها“,”، واعتبار ذلك التعبير رغم ما يحمله بدرجة أو بأخري من تعريض بعقيدة المرء من الأمور المسموح بها والتي لا تثير غضبًا طالما كانت متبادلة. وذلك هو السائد في عديد من دول الغرب، والذي كان سائدًا لدينا في فترات تاريخية متنوعة.
خلاصة القول:
الصمت إذن ليس ممكنًا والتجاهل مستحيل والحلم بإقناع الجميع بصواب عقيدة واحدة أمر لا يعدو أن يكون خيالا واهمًا، وليس من سبيل إذن سوي السعي الجاد لارتفاع الصوت المعتدل إلي جانب العمل العلمي الدءوب لتغيير الاتجاهات السائدة حيال الآخر المختلف دينيًا، وهي مهمة قد تبدو صعبة ولكن ما قد ييسرها أن تغيير الاتجاهات لم يعد هدفًا فلسفيًا نظريًا، بل فرع علمي من فروع علم النفس الاجتماعي وتطبيقاته السياسية.