الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أردوغان.. وكيان تركيا الموازي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت الهجمة التي شنتها السلطات التركية ضد صحفيين من جريدة (الزمان) تعبيرًا شديد الجلاء عن الهوية الحقيقية لنظام أنقرة الذي أسس دولة بوليسية حقيقية تعمد على قمع المعارضة وحصارها، وترسيخ وتكريس سلطة رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان على نحو مطلق وأبدي، إذ لم تداخلنا أوهام حول مدلولات الإجراءات القانونية والدستورية التي اتخذها أردوغان– منذ كان رئيسا للوزراء- والتي أطالت مدة ولاية رئيس الجمهورية إلى ست سنوات ووسعت من سلطاته وصلاحياته على نحو كبير جدا، وبشكل أخبرنا أن الرجل يسعى لتأسيس سلطة استبدادية تتلاءم مع حلمه الذي كان يسيطر على كل خلجة في نفسه، بمعنى (إحياء العثمانية)، إذا كانت أفكار أردوغان عن الهيمنة المطلقة أقرب إلى (السلطنة) منها إلى (الجمهورية)!
ولقد تعددت مظاهر الرغبة الأردوغانية في بناء وصون سلطته المطلقة، وربما كان أوضحها صدامات (جيزي بارك) وميدان (تقسيم) التي كذب فيها على الرأي العام قائلاً إنه يسعى إلى إزالة حديقة (جيزي) ليبني مكانها مول تجاري، ثم تبين أنه يرغب في إعادة بناء قلعة عثمانية أزالها كمال أتاتورك، وبما لتلك القلعة من رمزية ثقيلة في إطار إحياء أردوغان للسلطنة، وكذلك لهزيمة مشروع أتاتورك العلماني.
مارس أردوغان ضد معارضيه الطلبة والشباب في (تقسيم) ما يمثل دلالة واضحة على نزوعه الاستبدادي والقمعي، وتعددت مجالات ومظاهر ذلك القمع لتشمل كذلك إجراءات الرجل ضد الأكراد، والصدام المتواصل مع قواهم المدنية السلمية الحية، والتي تشارف في بعض الأحيان (التطهير العرقي)، وأخيرا فإن الأيام الفائتة شهدت صداما مروعا بين أردوغان وخصمه السياسي التقليدي اللدود فتح الله جولن زعيم تنظيم (الخدمة الإيمانية) والذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك حين شنت سلطات أنقرة حملة بوليسية ومداهمات ترويعية ضد عدد من الصحفيين الموالين لجولن في ذكرى عملية التوقيف والتحقيق التي شنتها عناصر القضاء والشرطة ضد مجموعة من المسئولين والأقارب في سلطة أردوغان (رئيس الوزراء وقتها)، وهي الإجراءات التي لم يتوقف أردوغان عن وصمها بأنها من صنع أيادي فتح الله جولن وجماعته.. ويكن استخلاص عدد من النقاط من ذلك التطور المهم على الساحة التركية أوجزه في التالي:
أولاً: ينبغي علينا التوقف أمام ما أعلنته سلطات أردوغان وتفوه به رئيس الجمهورية شخصيا عن أن جماعة (الخدمة الإيمانية) برئاسة فتح الله جولن تمثل (كيانا موازيا) إذ لم تجر العادة على وصف أي هيكل أو وعاء سياسي معارض بمثل تلك الكلمة، والتي تعني أن تنظيما ما يطرح نفسه بديلاً عن (دولة) تنظيم آخر، ونظرة أردوغان تلك إنما تعني رفض مبدأ (التداول) من الأصل والأساس، وهو المبدأ الديمقراطي الذي يحل فيه حزب أو قوة سياسية محل الآخر، إذا حاز تأييد الكتلة التصويتية، ومن هنا نظر الرئيس التركي إلى فتح الله جولن على ذلك النحو، ولكنني أتوقف– ما زلت- عند نفس الكلمة، إذ إن كيان الخدمة الإيمانية لا ينافس أردوغان على تأييد الشعب التركي، ولكنه يتضاغط معه على اعتراف وتعضيد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن جولن اخترع مزيجا من الأفكار الصوفية والإسلامية، قدم به نفسه إلى الرأي العام التركي والدول الغربية بوصفه صيغة (متقدمة ومعتدلة) للإسلام، وواضح أن واشنطن تزداد قبولاً لفتح الله جولن يوما وراء يوم، وبالذات حين كابد أردوغان هزيمته المذلة أمام ثورة 30 يونيو في مصر، والتي أطاحت حلمه بإحياء العثمانية، وبدا رجلاً بائسا يائسا تعسا يتخبط في الداخل التركي، وفي الإقليم والعالم، وبات بقاؤه على رأس السلطة في أنقرة مسألة موقوتة (فضلاً عن أنه فاز بالانتخابات الأخيرة في أغسطس بفارق واحد في المائة فقط تقريبا).
ومن هنا فإن واشنطن وجدت في فتح الله جولن بديلا (إسلاميا معتدلا وصناعة أمريكية) يمكن أن يحل مكان أردوغان العميل الإخواني الأمريكي بعد انتهاء تاريخ صلاحيته وسقوط مشروعه، وبعد أن أثبتت نتيجة الانتخابات الرئاسية الماضية أن احتمالية استمراره أو بقائه ليست مؤكدة.
جولن رقم أمريكي تود واشنطن إحلاله مكان رقم أمريكي آخر وبهذا المنطق ربما ينظر إليه أردوغان على أنه (كيان مواز).. وهو على رأس منظمة إسلامية مثل أردوغان، ومن هنا جاءت حكاية التنافس بين الرجلين، وتسمية أردوغان للخدمة الإيمانية باعتبارها كيانا موازيا.
ثانيا: هياج الولايات المتحدة- عبر وزارة الخارجية- والاتحاد الأوروبي عبر مسئولة السياسة الخارجية فيدريكا موجريني ضد إجراءات أردوغان بقمع الصحفيين، واعتبارها انتهاكا للقيم الأوروبية، وإهدار لحرية الإعلام واستقلال القضاء، هو– في حقيقية الأمر- تعبير عن اقتناع ترسخ لدى الغرب بأن مشروع أردوغان انتهى، وأن ارتباط أردوغان بمؤسسة التطرف هو– في التحليل الأخير- أقوى من ارتباطه بمؤسسة الغرب، وأنه لا يمكن التعديل عليه كحليف بعد أن تردد طويلاً وتمنع كثيرا عن مشاركة التحالف الدولي في ضرب داعش، وأخضع مشاركته لكثير شروط وبما لا يتوافق مع الخطط الأمريكية والغربية.
أمريكا وأوروبا تمهدان لرفع مظلة تأييدهما لأردوغان، وهما تقومان بتصنيع (بديل) تركي جديد هو حركة الخدمة الإيمانية بزعامة فتح الله جولن، ولا يكون التمهيد لذلك إلا بالضغط على أردوغان والإدانة المتواصلة لانتهاكاته لحقوق الإنسان ولأركان الديمقراطية.
ثالثاً: حملة (الكيان الموازي) التي شنها أردوغان على الصحفيين القريبين من فتح الله جولن لم تكن إفصاحا عن (استبداد) نظام أردوغان فحسب، ولكنها كانت إيضاحا (لفساد) ذلك النظام كذلك، إذ جاءت الحملة في ذكرى مواجهة صاخبة حدثت بين الأجهزة الشرطية والقضائية وبين أردوغان وابنه بلال وعدد من أقطاب نظامه بسبب فسادهم المالي والإداري، وقد أراد أردوغان بحملته الشرسة تصفية حساب قديم عمره سنة ونصف مع العناصر التي قادت الهجوم عليه وأنصاره وأقاربه، وبما يشير –بقول واحد- إلى أن نظام أردوغان ليس فاسدا فحسب، ولكنه عازم على القتال من أجل حماية فساده إلى آخر مدى يمكن تصوره، وهو ما يمكننا الاندفاع في حديث لا يمكن وقفة عن آفاقه واحتمالاته وبخاصة مع تلك "الرئاسية" التي حصن بها أردوغان وضعه كرئيس للجمهورية عبر ترسانة من تعديلات دستورية وقانونية.
ويبدو أن قصة أردوغان سوف تشهد في الشهور المقبلة تطورات جديدة ينتظمها مثلث (الأمريكان وأردوغان والكيان الموازي).