الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الأسرة والتنشئة الاجتماعية في عالم متغير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعد الأسرة بمثابة الجماعة الأولى للفرد، فهي أول جماعة يعيش فيها الفرد ويشعر بالانتماء إليها، ومن ثم يتلقى من خلالها الدروس الأولى في كيفية التعامل مع الآخرين، غير أن ثمة سؤالين مهمين تفرضهما طبيعة المتغيرات المتسارعة في عالم اليوم إلي جانب الخصائص النوعية الفارقة للمجتمعات العربية وتأثرها بما يجري في العالم من حولها. 
السؤال الأول: ترى ما هي حدود الفترة الزمنية التي تنفرد فيها الأسرة العربية اليوم بمهمة تشكيل الطفل العربي؟ إننا نستطيع أن نرصد عددا من العوامل تدفع في اتجاه تقليص حدود تلك الفترة الزمنية التي تنفرد فيها الأسرة العربية اليوم بمهمة تشكيل طفلها العربي، من تلك العوامل ما يرجع إلى عوامل التحديث التي تشهدها البلدان العربية شأنها شأن غيرها من دول العالم خاصة الدول النامية كتزايد نسبة الأمهات العاملات، ومن ثم انتشار دور الحضانة، وتزايد الاعتماد على المربيات اللاتي يكن من الأجنبيات في بعض الدول العربية.
السؤال الثاني: بصرف النظر عن حدود تلك الفترة ترى هل الأسرة العربية مطلقة اليد في تشكيل طفلها كما تهوى؟ قد يبدو للوهلة الأولى أننا أحرار في اتخاذ ما نراه مناسبا من قرارات فيما يتعلق بتلك المرحلة المبكرة من التنشئة الاجتماعية لأطفالنا، وفي حقيقة الأمر فإن ذلك يتنافى مع عدد من حقائق العلوم الاجتماعية. إن العالم "القديم" الذي شكل مجموعة القيم التي نشأ في ظلها الآباء والأمهات يمارس دورا فعالا لا فكاك منه في تحديد اتجاهاتنا نحو تنشئة أطفالنا. إن ذلك العالم "القديم" الذي شكل منظومة قيم الآباء والأمهات يخلق نموذجا مثاليا أو لنقل عددا من النماذج المثالية لما ينبغي أن تكون عليه تنشئتنا لأطفالنا، ومن ناحية أخرى فإن العالم "الواقعي" المحيط بالقائمين على شئون تنشئة الأطفال بما يتضمنه من تغيرات عالمية وإقليمية، سياسية واقتصادية، يمارس بدوره دورًا ضاغطًا في فرض عدد من النماذج لما ينبغي أن تكون عليه تنشئتنا لأطفالنا.
2- المؤسسات التعليمية
المؤسسة التعليمية هي تلك المؤسسة الرسمية التي اعتمدها المجتمع وأوكل إليها إلى جانب التعليم دورا مهما في استكمال عملية التنشئة الاجتماعية التي بدأتها الأسرة وذلك بهدف إعداد النشء للحياة والتفاعل مع المجتمع، وبذلك تعتبر المدرسة أول مؤسسة اجتماعية يعرفها الطفل خارج نطاق الأسرة، وعندما يخطو الطفل خطواته الأولى داخل المؤسسة التعليمية سواء كانت دارا للحضانة أو مدرسة لرياض الأطفال أو مدرسة ابتدائية، فإنه يلتقي للمرة الأولى عددا كبيرا من الرفاق من أسر متنوعة، كما يلتقي برموز للسلطة تختلف عما رآه في البيت، أو بين رفاقه من الجيران، و في هذا المناخ الجديد يكتسب الطفل الكثير من خبرات الحياة و التعامل مع الآخرين.
ولا يقتصر الدور الذي تلعبه المدرسة أو دار الحضانة في عملية التنشئة الاجتماعية القومية على ما تتضمنه برامجها من معلومات تتعلق بالوطن ورموزه، بل إن خبرة الخروج من نطاق الأسرة والتفاعل مع ما يجري في الطريق، فضلا على العديد من الأنشطة غير المقصودة تعليميا، تلعب جميعا دوراً بالغ الأهمية في هذا الصدد. ويفوق كل ذلك في الأهمية والتأثير حقيقة أن المدرسة تكون المجال الذي يبدأ فيه الطفل تكوين البذور الأولى لجماعة الأقران التي تصبح بمثابة جماعته المرجعية التي قد يفوق تأثيرها تأثير الأسرة نفسها, حيث تلعب جماعات الرفاق دوراً هاماً في التنشئة الاجتماعية للطفل، إذ تؤثر في معايير الفرد الاجتماعية، كما تمكن أفرادها من القيام بأدوار اجتماعية معينة يصعب قيامهم بها في نطاق الأسرة، بالإضافة إلى أنه نظرا لأن جماعة رفاق الطفل يشتركون غالبَا في نفس المرحلة العمرية و بالتالي فإن مناخ الندية السائد في مثل تلك الجماعات يسمح للطفل للمرة الأولي أن يحقق أمرين يصعب تحقيق أي منهما في غير ذلك المناخ. الأمر الأول إنه يسمح للطفل بالتفاعل ديموقراطيا مع رفاقه اختلافا و اتفاقا, تمردا و إذعانا، قيادة واتباعا، كل ذلك بعيدا عن التدخل الأسري التقليدي. الأمر الثاني أن جماعة الرفاق التي اختار الطفل بإرادته أن يكون عضوا من أعضائها يكون أكثر التزاما بمعاييرها حتى لو خالفت معايير الكبار غي الأسرة أو المدرسة, حيث أن العلاقات داخل الأسرة والمدرسة مهما بلغت ديمقراطية عملية صنع القرار تظل محكومة بمبدأ الخضوع لسلطة الكبار في النهاية.
ومن ناحية أخرى فإن جماعات الرفاق تلعب دورا أساسيا في تنمية الاعتراف بحقوق الآخرين ومراعاتها، حيث تتكون من نظراء متساويين ومن ثم فإنها تتيح مجالاً أكثر ملاءمة للتعامل مع الآخرين داخل الجماعة تعاملا موضوعيا متوازنا.
إن المؤسسة التعليمية بالشكل الذي نعرفه اليوم مؤسسة حديثة العهد نسبياً، فالبشرية لم تعرف المدرسة كمؤسسة اجتماعية إلا في عصر التخصص المهني والعلمي، وهو عصرنا الذي نعيش فيه. أما قبل ذلك فقد كانت الوظيفة التعليمية جزءاً من وظائف الأسرة، لا يكاد ينفصل أو يتمايز عن بقية وظائفها التربوية، والاقتصادية، والأمنية، والتشريعية.. إلى آخره، لقد كانت مسئولية القيام بوظائف الأسرة تقع على عاتق الكبار، وكانت الوظيفة التعليمية تحديداً تعتبر من مسئوليات الأب بالنسبة للأبناء الذكور حيث يقوم بنقل ما اكتسبه من خبرات إليهم، ليقوموا هم نفس الدور حيال أبنائهم في المستقبل. وتقوم الأم بنفس الدور بالنسبة للإناث ويشترك الوالدان معاً في تحمل مسئوليات التنشئة التربوية للأبناء جميعاً ذكوراً وإناثاً. ولكن مع تطور المجتمع البشري، وتعقده، وتضخم حجم الخبرات المطلوب من أبنائه تحصيلها، وتشابك احتياجات أفراده، أصبح لزاماً على الأسرة أن تتخلى شيئاً عن وظائفها القديمة، وأن توكلها إلى مؤسسات اجتماعية حديثة أكثر تخصصاً وقدرة على القيام بتلك الوظائف بعد أن تشعبت. وتخلت الأسرة بالفعل عن الكثير من وظائف إنتاج الطعام، و التشريع، و الأمن، و القضاء. وكان من أهم وأحرج ما اضطرت الأسرة إلى التخلي عنه هو الوظيفة التعليمية. وقد يكون مصدر الحرج في هذا الأمر بالذات هو أن مكانة كبار الأسرة حيال صغارها، وبالتحديد صورة الأب حيال الأبناء، قد ارتبط تاريخياً، وعبر آلاف الأجيال المتعاقبة، بصورة "المعلم"، و"العارف بحقائق الكون وقوانينه".