تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
كنا نقضي واجب العزاء.. عندما انطلقت ضحكات بعض المعزين لتبدد جهامة الحزن في الصوان.. رأيته يتوسط الضاحكين بوجهه الأحمر الذي احفظ تقاطيعه.. اسمه سليمان، وشهرته سولم، وعمله الأخير كان مديرا كبيرا في وزارة مهمة، أما شغلته التي عرفته أيام الدراسة الثانوية في مدرسة رأس التين العسكرية.. فهي النقيب احتياط حكمدار المدرسة، لم تغيره السنوات، ولم تترك على وجهه بصمة واحدة تدل على عمره الحقيقي، ما زال كما هو رغم مرور عشرات السنين.
يوم استلامه لعمله في المدرسة، بدأ بمحاضرة عامة لكل الطلاب عن الضبط والربط، وأعلن أنه سيكسر عضم أي واحد يخرج عن النظام، أصاب البعض منا الخوف ورأى البعض أنها فرصة للتقرب من إدارة المدرسة والإبلاغ عن المشاغبين منهم دون خوف منهم، وكان أسعد الجميع بكلام النقيب "سولم " هو مدير المدرسة، والذي قرر أن يبدأ الضبط والربط بطلبة الأدبي وكنت واحدًا من هؤلاء، دخل علينا النقيب والمدير في الحصة الأولي، وأعاد علينا المدير كلمات النقيب، وقال إنه مطمئن مع السياسة الجديدة، ولم ينس أن يشير بالاسم إلى بعض الطلاب ووصفهم بأنهم بذرة الفساد في هذا الفصل وفي المدرسة ووصمة عار في تاريخ التربية والتعليم.. وخرج المدير وبدأ النقيب في تفحص الوجوه ثم جلس إلى مقعده وخلع "الكاب" واستند إلى مقعد آخر بطريقة لا تتفق مع نظرته المتجهمة.. وقال نبدأ بالتعارف.. من منكم يسكن في منطقة بحري.. وقفنا أنا وستة طلاب وسألنا من منكم يعرف الحاج "بنورة" لم يكن زملائي يعرفونه أما أنا فكنت أعرفه جيدّا وكنا نسكن بالقرب منه ورائحة شارعنا " ملعلعة " بالدخان الأزرق بفضله وبفضل صبيانه، لم نرد على النقيب وأجبنا بعدم المعرفة.. وعقب سولم "على جهلنا بالحاج بنورة " بأننا عيال هبل وأن مدير المدرسة أهبل مننا.. واندفعت قائلا: يعني يا فندم لازم نعرف تجار المخدرات عشان نبقى عيال جدعان، لمعت عينا "سولم " وتوقعت أن تبدأ سياسة الضبط والربط بكسر عضامي، ولكنه أشار إليّ بالوقوف إلى جانبه واستكمل أسئلته عن المناطق والتجار والغرز والأفلام وأشياء أخرى وفي نهاية الحصة كنا 12 من طلاب الفصل نقف بجواره.
أثناء هذا التعارف الغريب انطلق "سولم " في حكايات ونكت وتريقة على الطلبة والمدرسة وحتى المدير لم يسلم من لسانه، واكتشفنا أن سيادة النقيب المتجهم يتمتع بخفة دم غير طبيعية وانتهت الحصة دون أن نشعر بالوقت وفي نهاية اليوم جمعنا "سولم" في مكتبه نحن الاثنا عشر ومعنا مجموعة أخرى انتقاها من كل فصل وبعد قليل، جاء المدير وبدأ "سولم" الكلام بأنه قرر تعيين كل منا برتبة عريف، فوجئ المدير وتحول وجهه لمجموعة ألوان تعبر عن الدهشة والغضب وقال ألم تجد غير هؤلاء.. كنا نرقب الموقف بدهشة لا تقل عن المدير فقد اختار "سولم " كل الطلبة الذين ينغصون على المدير حياته في التربية والتعليم.. وكانت المفأجاة الأكبر في الأيام التالية.. لم تحدث حالة تزويغ واحدة أو أي مقالب سخيفة أو معارك أو حرائق وهي الحوادث اليومية الطبيعية.. استمر الهدوء حتى تخرجنا وانتقالنا إلى الجامعة، وكانت المصادفة هي خروج " سولم " من الخدمة في نفس التوقيت.. وكنا نلازمه في الصباح والمساء.
كان سولم "ظابط كفء" برغم تأخره عن الترقية مرتين بسبب مشاغباته وتمرده واعتراضه على أخطاء قادته في المعسكرات والمناطق المركزية.
وكان قبل دخوله الجيش من المتفوقين في دراسته الثانوية والجامعية ولولا الخدمة العسكرية لكان واحدا من أساتذة الجامعات، وبرغم ذلك كان "سولم" قاموسا في الصياعة وقلة الأدب وله من الصداقات الغريبة في أوساط الغرز والبارات مثل ما له من الصداقات الغريبة في أوساط الأندية والمنتديات الراقية وكان قادرا على الكلام بكل اللغات التي يفهمها البشر وكأنه أستاذ علم نفس.. لم يتزوج ولكنه كان سعيدّا بتزويج أربعة بنات من إخواته، وكان يقول لنا "انجز المطلوب منك وافعل ما تشاء بعد ذلك واللي مش عاجبه يشرب من البحر ".
وكان "لسولم" منظومة كاملة من الرأي في كل شيء بالحياة في الصداقة والحب والمرأة والعمل والمزيكة والأغاني والأفلام وفي السياسة والأدب والاقتصاد وهي منظومة كونها من خلال قراءاته وعلاقاته ومشاغباته ومغامراته.
في اليوم الأخير له بالمدرسة بكينا.. وفي المساء التقينا معه في فرح بمنطقة سكنه جاء "سولم" ببدلته العسكرية وكانت المرة الأخيرة التي يلبسها ويرقص بها.. وقامت الفرقة الموسيقية بعزف سلام خاص "لسولم" وهم يغنون: "سولم يا سولم..جدع يا سولم.. وظابط ياسولم.. وصايع ياسولم وغيرها من الأوصاف التي تجمع بين الرقي والانحطاط."
وافترقنا فرقة العرفاء سنوات طويلة.. كنا نلتقي على فترات متباعدة لكننا أبدا لم ننس أيام سيادة النقيب، حتى اتصل بي واحد من فرقة العرفاء.. قال لي في اقتضاب البقية في حياتك وعرفت قبل أن يكمل كلامه أن سيادة النقيب قد رحل عن دنيانا.
في صوان العزاء كانت كل فرقة العرفاء موجودة منها المحامي والمدرس والظابط والصحفي وأساتذة الجامعة ورجل الأعمال ومدرب السباحة والتاجر والمحاسب والقادم من بلاد النفط في الإجازة وغيرهم.
تمشيت قليلّا مع البعض منهم في المنطقة الشعبية وأثناء مرورنا أمام أحد الأفراح المقامة في الشارع سمعنا صوت الميكروفون يلعلع بسلام "سولم".
هذه الأيام تمر سنوات طويلة على رحيله، ولكنه ما زال حيا بيننا، وداعّا سيادة النقيب حتى نلتقي.