تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تحفل الساحة السياسية بالعديد من التصورات لحل الأزمة القائمة في بلادنا، منها ما يدعو للاستشهاد دفاعا عن الشرعية، ومنها ما يدعو لإبادة الإخوان المسلمين واستئصالهم من ساحة العمل السياسي.
غير أن ثمة مبادرات تسعى إلى الحل السياسي للأزمة؛ وعلى أي حال فمن المتوقع في الأيام القادمة تزايد تلك المبادرات والوسطاء المصريين والإقليميين بل والدوليين؛ ولو حاولنا استشراف احتمالات نجاح تلك المحاولات في ضوء تراث علم النفس السياسي وجب أن نضع في الاعتبار أن الصراع القائم في بلادنا صراع بين سلطتين تتنازعان الشرعية، ولا تعترف أيهما بشرعية السلطة الأخرى: سلطة تستند إلى اختيار الشعب للدكتور مرسي رئيسا للبلاد في آخر انتخابات، وسلطة تستند إلى أن الدكتور مرسي قد تم عزله بناء على ثورة شعبية جرت في 30 يونيو 2013.
وينبغي التنبه في هذا المقام إلى خطأ اختزال حل الصراع في إنهاء الاعتصام المساند للشرعية والشريعة سواء بالقوة المفرطة أو الناعمة أو حتى بالانسحاب التكتيكي؛ فعودة المعتصمين إلى منازلهم لا تعني تركهم لأفكارهم في مواقع الاعتصام.
إن التوصل إلى حل سياسي للصراع يقتضي قبول أطراف الصراع بما يطلق عليه في علم التفاوض “,”تنازلات قاسية“,” أو “,”قرارات مؤلمة“,”؛ بما يعني القبول بالتنازل بشكل ما عما سبق لكل طرف أن أعلن أنه خط أحمر لا تفاوض بشأنه، مثل المطالبة بعودة الرئيس المعزول لممارسة سلطاته، واعتبار كل ما جرى من 30 يونيو حتى الآن انقلابا عسكريا على الشرعية ينبغي الرجوع عنه في مقابل الإصرار على أن ما حدث في 30 يونيو من ثورة شعبية يقتضي استبعاد جماعة الإخوان المسلمين من ساحة العمل السياسي.
إن القبول المتبادل بمثل تلك التنازلات القاسية يتطلب وقتا ليدرك كل طرف استحالة إنهاء وجود الطرف الآخر، واستحالة احتفاظه بخطوطه القاطعة الحمراء، كما يتطلب ذلك القبول أن يسبقه إقناع كل طرف لجماهيره بأن مثل تلك التنازلات لا تمس “,”جوهر“,” المبادئ؛ وأنها تضمن مكاسب على المدى البعيد.. إلى آخره؛ ولا يبدو لي حتى الآن أن شيئا من ذلك قد تحقق، وأن كل طرف ما زال يختبر قواه؛ وهي على أي حال مرحلة ضرورية رغم آلامها لكي يحسب كل من الطرفين الحجم النسبي لتنازله المحتمل.
ولا يمكن أن يتحقق شيء من ذلك بأن يجلس كل طرف مع أنصاره ليحدد تصور الحل “,”المقبول“,”، إذ إنه آنذاك إنما يتحدث عمليا عن الحل “,”المثالي“,” الذي يكفل له وحده الحفاظ عل خطوطه الحمراء، فالحل “,”المقبول“,” إنما يعني الحل الذي يمكن أن يقبل به الطرف الآخر، وهو ما لا يمكن بلوغه عمليا إلا عبر نوع من التواصل مع ذلك الطرف الآخر لمعرفة نواياه الحقيقية؛ ولما كان مثل ذلك التواصل يعني بدرجة أو بأخرى الاعتراف بشرعية الآخر؛ فإنه يؤدي عادة إلى تبرؤ الجماعة علنا من أصحابه بل والتبرؤ من ذلك الذي جرؤ على التحاور باسمها مع طرف لا تعترف بشرعيته أصلا.
ترى كيف إذن تمكنت جماعات متصارعة من القبول بمبادرات تحمل حلولا سياسية تتضمن تنازلات قاسية بعد أن خاضت تلك الجماعات صراعات دموية طويلة؟ يشير استقراء وقائع العلم والتاريخ إلى أن المبادرات التي كتب لها النجاح كانت تعلن بعد التوصل إلى اتفاق مبدئي حول إطارها على الأقل؛ وأنه لم يحدث قط أن نجحت مبادرة جرى إعلانها دون تفاهم مسبق مهما كانت نوايا أصحابها ودوافعهم؛ فلم يعرف التاريخ قط تفاوضا جديا جرى تحت الأضواء الكاشفة التي تدفع كل طرف للتمسك بخطوطه الحمراء.
بعبارة أخرى فإن نجاح أية مبادرة لا بد أن يسبقه بالضرورة استطلاع إمكانية قبولها من تلك الأطراف، ويجرى ذلك الاستطلاع عادة عبر ما يعرف بمفاوضات المسار الثاني أو المفاوضات غير الرسمية أو غير المباشرة؛ والتي قد تتم في حالة احتدام التنافر بين أطراف الصراع عبر وسيط خارجي يرفع عن الأطراف المتصارعة حرج التفاوض المباشر، وفي حال نجاح مثل تلك المفاوضات غير المباشرة لا ينفرد بالإعلان عنها أحد أطراف الصراع ولا مجموعة محسوبة بشكل ما على أي من تلك الأطراف مهما كانت نزاهة تلك المجموعة وتجردها؛ بل يصدر الإعلان عن ممثلين لطرفي الصراع ليبدأ بعد ذلك الحوار حول التفاصيل.
ورغم ذلك فإن تاريخ الصراعات يحفل بالعديد من المبادرات التي تصدر على مسئولية أصحابها ليكون مصيرها التعثر؛ ولا يرجع ذلك لجهل أصحابها بالقوانين العلمية أو التاريخية التي أشرنا إليها، ولكنها تكون في حقيقة الأمر موجهة إلى جماهير الطرف الآخر بهدف كسبها لزيادة رصيد طرف معين في حصيلة التسوية المرجوة للصراع.
الطريق إذن يبدو طويلا- ولا أقول مسدودا- أمام التوصل إلى مبادرة مقبولة.