واحنا صغيرين.. فى قريتى الصغيرة فى الصعيد الجوانى جدًا.. ماكانشى فيه حاجة اسمها «بوتاجاز».. لأنه من الأساس لا كان فيه كهربا ولا غاز - كان عندنا بس الـ«جاز» وده اللى كنا بنوَّر بيه «لُمضْ العويل»..
كان فيه الفرن البلدي.. و«الموقد».. والكانون.. والأخير هو نفسه «الموقد» مع اختلاف بسيط.. هذا «الكانون» يادوب «قالبين طوب حُمر» من أى «قمير»، يترصوا بشكل متوازى فى أى ركن من البيت.. ويتحط فوقيهم حلة الطبيخ..
ولأننا كنا مستورين.. يعنى فوق خط الفقر.. وصيغة الجمع هنا تعنى «كل أهل قريتي».. لم نكن نصدق ما تحكيه لنا الجدات عن المرأة التى كانت تضع الماء فوق الكانون لتوهم أطفالها أنها تطبخ لهم.. مع إضافة بعض التوابل الحراقة والحرِّيفة حتى تنشط خلايا الخيال فيهرسوا الوهم ويناموا دون مطالبتها بطعام!!.
هذا الكانون الذى اختفى من حياتنا منذ ٣٠ سنة ويزيد.. يعود الآن ليتصدر فتارين أهل السياسة والحكم فى بلادنا.. تحولت الشاشات والقعدات والاجتماعات والمؤتمرات إلى «كانون»، مجرد «كانون» بلا طعام حقيقي.. لكننا لم نعد أطفالاً.. ولم يعد لنا أى خيال.. فقد أصابت خلايانا جميعًا فيروسات الفتنة.. ماعدش ينفع حد يضحك على الناس.. ويوهمهم أن «الحلة» فيها طبيخ..
وفى المقدمة من هؤلاء.. شباب كبرت خلاياهم وشاخت قبل الأوان.. يحتاجون إلى «حقيقة واحدة» غير الموت.. إلى أمل واحد غير «الهجرة».. إلى باب مفتوح على «حلم» لا على «المشرحة».. ما حدش فيهم مولود عشان يتظاهر.. ولا يتخانق.. ولا مكتوب على «سرة» أغلبهم أنهم «نشطاء».
لا أبرئ ساحة أحد.. ولا أتهم أحدا.. فقط أشير.. وأنبه.. وأحذر.. ما عنديش حاجة أعملها غير كده.. ومش فى إيدى حاجة أعملها.. ولا عندى خلية خيال واحدة زيادة عن كل اللى عايشين فيها..
لن نقتل أمهاتنا لأنهن يحاولن إيهامنا أن الموجود فى «الحلة اللى فوق الكانون» لحمة ضانى معتبرة.. فلا أحد يقتل أمه سوى «المجنون»، وقطعًا مش كل غضبان أو زهقان أو متضايق فى البلد دي.. مجنون.. وإن كان بعضنا فى طريقه إلى ذلك فعلاً!