تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ثمة عدد من الخصائص الشخصية تحدد قدرة الشخص على توسيع أو تضييق حدود جماعة النحن، فالحدود النظرية لجماعات الانتماء المتاحة أمام الفرد، يمكن تصورها علي هيئة خط متصل تحتل طرفاه نقطتان متطرفتان: طرفٌ يتمثل في مقولة "ليس ثمة من يشبهني علي الإطلاق، إنني أختلف تمامًا عن الآخرين في كافة الوجوه". ويتمثل الطرف الآخر المقابل في مقولة "لا فرق بيني وبين غيري مطلقًا، إنني لا أستطيع أن أميز نفسي عن الآخرين".
وغني عن البيان ما تمثله هاتان النقطتان المتطرفتان من دلالات في مجال الأمراض النفسية لسنا بصدد التعرض لها. ما يعنينا هو أن جماعة الانتماء تحتل بالنسبة للفرد موقعًا ما بين هاتين النقطتين المتطرفتين، قد يقترب موقعها بدرجة ما من النقطة الأولى فتضيق حدودها، وقد يبتعد عن تلك النقطة فتتسع تلك الحدود بقدر ابتعادها عنها. ويظل الجوهر دائمًا هو مدي قدرة الفرد علي تبين وتقبل الاختلافات بين الأفكار وبعضها، وبين مختلف أشكال السلوك والمواقف الاجتماعية. وترتكز تلك القدرة علي مجموعة من خصائص الشخصية التي تتباين أنماط التنشئة الاجتماعية من حيث تدعيمها لها أو إحباطها ودفعها إلي الظل، فثمة أنماط من التنشئة الاجتماعية تربي أبناءها على أن العالم بما فيه وبمن فيه إنما هو صنفان: خطأ وصواب، أسود وأبيض، ولا مجال للتدرج بين هذا وذاك. ويمتد ذلك التصنيف القاطع ليشمل كل شيء، ابتداء من نوعيات الطعام والملابس، إلى النجاح في الدراسة والعمل، إلي المفاضلة بين الذكر والأنثى، وبين النظم الاجتماعية، والأفكار السياسية إلى آخره، فلا مجال لرؤية وجهي الموضوع في آن واحد، ولا مجال لأن يضع الفرد نفسه موضع الآخر ليتبين كيف؟ ولماذا؟ هو مختلف عنه، وما هي درجة ذلك الاختلاف؟ ويؤدي إضعاف تلك القدرة على تبين وتقبل الاختلاف عن الغير إلى أن يعجز المرء عن القبول بمقولة "إنهم يختلفون عنا حقا في بعض الأوجه، ولكنهم يلتقون معنا فيما هو أهم، إنهم جزءٌ من جماعتنا.
لعلنا نستطيع أن نخلص مما سبق إلي أن عملية الانتماء إنما تستهدف في النهاية انتماء الفرد إلي جماعة النحن بما قد تضمه تلك الجماعة من جماعات فرعية. وذلك إنما يعني ضمنًا تمايز جماعة "النحن" عن جماعة "الآخرين". وإذا كانت الحاجة للانتماء تضرب بجذورها كما بينا في طبيعة التكوين الفيزيقي للوليد الإنساني، وتستند في إشباعها وتنميتها إلي طبيعة التكوين الاجتماعي للأسرة وللمجتمع البشري، فإن للحاجة إلي التمايز جذورًا لا تقل عن ذلك أهمية ولا خطرًا. فالفرد يعي ذاته منذ البداية من خلال وعيه بتمايزه عن الطبيعة، وعن الآخرين أيضًا. ومن ثم فإن عملية التنشئة الاجتماعية- مهما كان نمطها- تتضمن حتمًا نوعًا من التدعيم لتمايز "النحن" عن "الآخرين".
ولكن الآخرين هؤلاء ليسوا سواء بالنسبة للنحن، بل تتعدد صورهم، وتتباين الأساليب التي تدربنا عملية التنشئة الاجتماعية علي اتباعها معهم. ولعلنا نستطيع أن نجتهد فنصنف صور "الآخرين"، ومن ثم أساليب التعامل معهم إلي ثلاث صور رئيسية: الآخر "المجهول"، والآخر "الصديق"، والآخر "العدو"، وتتباين أساليب التعامل مع الآخر، وفقًا لذلك التصنيف، فثمة مجموعة من الأساليب نتدرب على اتباعها حيال الآخر "المجهول" تتسم غالبًا بطابع الاستكشاف الحذر، ومحاولة التعرف. وتهدف تلك الأساليب في النهاية إلي تصنيف ذلك المجهول ضمن واحدة من الفئتين الباقيتين: صديق أو عدو، وثمة مجموعة أخرى من الأساليب تزودنا بها عملية التنشئة الاجتماعية للتعامل مع الآخر “الصديق"، وهي تتسم غالبًا بطابع التعاون المتبادل، والتنافس السلمي، في إطار من الحرص علي التمايز. أما بالنسبة للآخر "العدو"، فأساليب التعامل معه شديدة التباين، إذ يتدخل في تشكيلها طبيعة توازن القوي بين " النحن" وذلك الآخر "العدو". وقد تجمع تلك الأساليب بين التجاهل، والمقاطعة، والملاينة، والعنف .. إلى آخره
وغني عن البيان أن اصطناعنا لمثل ذلك التصنيف لا يعني بحال أنه تصنيف جامد. فصور الآخرين التي أشرنا إليها دائمة التغير والحركة علي مستوي الواقع المعاش، قد يتحول "الصديق" إلى "عدو"، وقد يتحول أيهما إلى "مجهول" بل وقد ينتقل "الصديق" عبر مرحلة تاريخية ليصبح جزءًا من مكونات النحن. خلاصة القول أن التنشئة الاجتماعية تزودنا منذ البداية بأساليب التعامل مع مختلف الصور التي يتخذها "الآخر" أما عملية تصنيف الآخرين وفقًا لصورهم - أو لتصوراتنا عنهم - فهي عملية يستمر تفاعلها وتغيرها ما بقي المجتمع وما استمرت عملية التنشئة الاجتماعية.
ومن خلال تفاعل تلك الصور الثلاث للآخر، يتشكل ما يمكن أن نطلق عليه "عالم الآخرين"، أي الطابع العام لمجمل صور الآخرين بالنسبة للنحن. قد يكون ذلك العالم "معاديًا" يكاد أن يخلو من الآخر "الصديق"، وقد يكون عالمًا "صديقًا" يقل فيه تواجد الآخر "العدو"، كما قد تغلب عليه في بعض فترات النمو النفسي أو التغير الاجتماعي كونه عالمًا "مجهولًا" علينا استكشافه وتصنيفه.
ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن عالم الآخرين الذي نحن بصدده، لا يتطابق بالضرورة مع الخصائص الموضوعية لأولئك الآخرين، ولا حتى مع التحليل الموضوعي لطبيعة مواقفهم من "النحن" سواء في الماضي أو في الحاضر. إنه عالم من الصور والتصورات تشيده عملية التنشئة الاجتماعية بهدف حماية النحن وضمان تماسكها، وليس من بأس في سبيل بلوغ هذا الهدف من ابتعاد يزيد أو يقل عن الملامح الموضوعية.
وتتخذ هذه الفجوة بين الخصائص الموضوعية للآخرين، وبين صورتهم كما تصيغها عملية التنشئة الاجتماعية أبعادًا خطيرة في عالم اليوم علي وجه الخصوص. في عالم لم تعد فيه التنشئة الاجتماعية حكرًا علي الأسرة وحدها ولا حتى علي المدرسة أيضًا. في عالم تعقدت فيه العلاقات بين أقطار الأمة الواحدة، وازدادت فيه قيود الانتقال وتكاليفه رغم تطور وسائله. في مثل هذا العالم تلعب أجهزة الإعلام دورًا بارزًا في صناعة - أو بالأحرى اصطناع - صور الآخرين، وتشكيلها وفقًا لما يراه أولي الأمر محققًا لمصلحة الجماعة.