تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
وكما أتت الخلافة العثمانية من تركيا، فإن نهايتها أتت هي أيضًا من هناك. ولعل هذا يفسر لنا عمق المعركة الحالية بين العلمانيين الأتراك وبين حكم اردوغان.
لكن قيام أتاتورك بإنهاء «الخلافة» ترك بصمات بالغة الأهمية في مصر، وعلى مفكريها وسياسييها.
فبعد أربعة أيام فقط من قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة اجتمع بعض علماء الأزهر وأصدروا بيانًا أعلنوا فيه «بطلان ما قام به الكماليون لأن الخليفة قد بويع من المسلمين ولا يمكن خلعه».
لكن موقع الخليفة الشاغر أسال لعاب الكثير من الحكام المسلمين كل منهم ينشد المنصب لنفسه، الملك أمان الله ملك الأفغان، والملك حسين بن علي ملك الحجاز، وكان هنا أيضًا الملك فؤاد الذي تحصن بالثقل الحضاري والثقافي لمصر وبأزهرها الشريف وسارع للمطالبة بالموقع. وهنا تغير موقف بعض شيوخ الأزهر فنسوا بيعة الخليفة المخلوع واهتموا بطموحات الملك فؤاد وقرروا دعوة ممثلي جميع الأمم الإسلامية إلى مؤتمر يعقد في القاهرة برئاسة شيخ الأزهر للبحث فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة ومكان وجوده، وحددوا شهر شعبان من العام التالي لانعقاده».
وتدور عجلة الإعداد لهذا المؤتمر مستمدة حماسها من حماس الملك فؤاد وشغفه بأن يكون خليفة للمسلمين، وفي ربيع أول 1343هـ (اكتوبر 1924) صدرت نشرة أسميت «المؤتمر» وأعلن أصحابها أن الهدف منها هو الدعوة لحضور المؤتمر وإنجاحه وتحديد أهدافه وفي صدر العدد الأول نشر مقال للشيخ رشيد رضا يؤكد ضرورة عقد المؤتمر لأنه «أول مؤتمر إسلامي عام يشترك فيه علماء الدين والدنيا من كل الأمم الإسلامية ، خاصة أن مهمته هي وضع قواعد للحكومة الإسلامية المدنية التي يظهر فيها علو التشريع الإسلامي واختيار خليفة وإمام للمسلمين».
لكن قوي عديدة تكاتفت لإفشال هذا المؤتمر، فالملوك تنافسوا على موقع الخليفة، والدول التي كانت تحكمها الخلافة تسارعت إلى إعلان قيام كيانات وطنية ، والقوي الاستعمارية سيطرت على عديد منها. وكان هناك في مصر رئيس وزراء شديد العداء للفكرة هو سعد زغلول، أما حلفاء الملك فؤاد من حزب الأحرار الدستوريين فقد كانوا بسبب من موقفهم الليبرالي خصوما للفكرة ، وكتبت جريدتهم «السياسة» «إن الدستور ينص على أنه لا يجوز للملك أن يتولى مع ملك مصر أمور دولة أخرى بغير رضاء البرلمان ومن ثم يتعين ترك بحث هذه المسألة للسياسيين، وأن يعدل علماء الأزهر عن دعوتهم لهذا المؤتمر» وفي «السياسة» كتب الشيخ علي عبد الرازق (وكان من الأحرار الدستوريين) مقالاً كشف فيه كل أوراق اللعبة، مؤكدًا أن الحماس للخلافة ليس حماساً للإسلام وإنما مساندة لمطامع الملك فؤاد فقال: «كانت مسألة الخلافة أولاً دفاعاً عن مقام معين يراد الاحتفاظ به كأثر يحتاج إلى العناية، وكمريض يحتاج إلى الحماية». ويمضي المقال قائلاً «والآن انتقلت المسألة إلى وضع آخر، واتجه الرأي إلى العمل على إيجاد مقام جديد يحمل حمل ذلك الأمر الذاهب، لأن أناساً يريدون أن يبقى في الوجود ذلك الشيء ليكونوا له حماة» كذلك شنت الصحف الوفدية حملات ضارية على المؤتمر وعلى فكرة الخلافة ذاتها. وكان انعقاد المؤتمر في 13 مايو 1926 إشهاراً لوفاته، ومن هزال الحضور إلى هزال النتائج، فشل المؤتمر وفشل الملك فؤاد في تحقيق طموحه، وبقي من المسألة صراع فكري وسياسي محتدم.
ولكن الشيخ علي عبد الرازق هو صاحب الضجة الأكثر صخبًا، ربما لأنه كان صاحب الفكرة الأكثر عمقا فهو أزهري متعمق في دراسة الفقه الإسلامي وحائز على شهادة العالمية ودرس فوق ذلك بالجامعة المصرية وتخصص في الأدب العربي والفلسفة ثم سافر إلى انجلترا ليدرس في اكسفورد مستهدفًا التخصص في الاقتصاد والعلوم السياسية وفوق هذا وذاك انتسب - وهو لم يزل طالبًا- إلى مجموعة ليبرالية تضم د.محمد حسين هيكل ومحمود عزمي وعزيز ميرهم ود.منصور فهمي.. وهكذا ندرك أن الشيخ علي عبدالرازق لم يهبط فجأة على ساحة الفكر المصري بل تكوّن ونضج فيها عبر سنوات من الكتابة والعمل الفكري والسياسي ومن النضال السياسي سواء في صفوف «الحزب الديمقراطي» أو مع مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين.
وكان كتاب «الإسلام وأصول الحكم» ثمرة لذلك كله، فلنحاول مطالعة بعض مما جاء فيه «الحكم والحكومة والقضاء والإدارة ومراكز الدولة هي جميعًا خطط دنيوية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهي عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة». ويقول حول موضوع الخلافة «إذا كان في الحياة الدنيا شيء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم ويسهل عليه العدوان والبغي فذلك هو مقام الخليفة ..ومعه لا شيء إلا العسف ولا حكم إلا السيف»، ويمضي قائلاً «إن شعائر الله تعالي ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة وأولئك الذين يسميهم الناس خلفاء، فليس من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنًا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد».
ويسأل الشيخ هل كان الرسول رسولا ملكا أم رسولا فقط؟ ويجيب «أن القرآن صريح في أن محمداً (صلى الله عليه وسلم) لم يكن إلا رسولاً خلت من قبله الرسل»، ثم هو يؤكد بعد ذلك أن الرسول لم يعين من بعده خليفة، وإن كل الذين تزعموا المسلمين من بعده ومن بينهم الخلفاء الراشدون كانت زعامتهم مدنية أو سياسية وليست دينية، وأن أبا بكر هو الذي أطلق على نفسه لقب خليفة، وإن بيعته كانت ثمرة اتفاق سياسي، ومن ثم فإن حكمه كان حكمًا مدنيًا وكان اجتهاده اجتهاداً دنيويًا.
المهم، صدر الكتاب وقامت الدنيا ولم تقعد، فقد حرك الكتاب المياه الليبرالية الراكدة في المجتمع فتكتب مجلة الهلال «إن كل أمة إسلامية حرة في انتخاب من تريده حاكما عليها، وسواء كان الأستاذ علي عبد الرازق قد وفق إلى أن يسند نظريته إلى الدين أم لم يوفق فإن هذه النظرية تتفق وأصول الحكم في القرن العشرين الذي يجعل السيادة للأمة دون سواها» (الهلال - يوليو 1925). وكتبت جريدة المقتطف «أننا نعتقد أن كل ما قاله حضرة القاضي علي عبد الرازق وأمثاله قرين الصواب وخال من الخطأ».
ثم تأتي مساندة ذات قيمة كبيرة من أحمد شوقي:
مضت الخلافة والإمام فهل مضى
ما كان بين الله والعبـــــــــاد
والله ما نسى الشهادة حاضر
في المسلمين ولا تردد شادي
والصوم باق والصلاة مقامة
والحج ينشط في عناق الحادي
وعلى الضفة الأخرى كان غضب الملك وغضب عديد من رجال الأزهر وغضب غيرهم. وكتب رشيد رضا محرضاً من لا يحتاج إلى تحريض «لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت على هذا الكتاب، لئلا يقول صاحبه وأنصاره أن سكوتهم عنه إجازة له، أو عجز عن الرد عليه». وسريعًا أصدر الشيخ محمد بخيت المطيعي كتابا يتهم فيه علي عبد الرازق بالوقوف ضد الدين. أما الشيخ الخضر حسين فقد أصدر كتابًا بعنوان «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم» واللافت للنظر أنه أهدى الكتاب إلى «حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر الأعظم».. طالباً منه «حراسة الشريعة بالحجة والحسام». وجاء الحسام عبر هيئة كبار العلماء بالأزهر التي اجتمعت بالمؤلف وحاكمته وأصدرت حكمها في 12 أغسطس وقررت «نزع شهادة العالمية منه ومحو اسمه من سجلات الجامع الأزهر وطرده من كل وظيفة لعدم أهليته للقيام بأية وظيفة دينية أو غير دينية». وأسرع شيخ الأزهر ليبرق للملك بالحكم «شاكرا له غيرته على الدين من عبث العابثين وإلحاد الملحدين وحفظ كرامة العلم والعلماء».
وتجري مياه كثيرة في نهر هذه المعركة لكن نهايتها تبقى مثيرة للدهشة حتى الآن. ففي عام 1947 كان حزب الأحرار الدستوريين شريكًا قويًا في الحكومة ورغب في تعيين علي عبد الرازق وزيراً. وبناء على رغبة سامية اجتمعت هيئة كبار العلماء ومعها أعضاء المجلس الأعلى للأزهر في 25 فبراير 1947 لتوجه رسالة للملك فاروق جاء فيها «أن المجتمعين يلتمسون من جلالة الملك وفضله غزير على الأزهر أن يتفضل فيعفو عن الأثر المترتب على الحكم الذي أصدرته هيئة كبار العلماء منذ 22 عامًا» وقبل الملك الالتماس ثم أصدر مرسومًا ملكيًا في 3 مارس 1947بتعيين الشيخ علي عبد الرازق وزيراً للأوقاف.
وهكذا ثأر الشيخ لنفسه ولكتابه.
لكن مسألة الخلافة تبقى. تخبو ثم تعود وتحتاج إلى مزيد من المواجهة.
“,”وللحديث بقية“,”