تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
هذا هامش مهم ينبغى التوقف أمامه، وسط معجنة القتال الاهلى السورى، وعمليات الغزو الممنهج التى تقوم بها عناصر إرهابية تنتمى إلى أكثر من ثمانين دولة بعد أن جندتها ومولتها وسلحتها دول تحوط سوريا وتتقاطع أهدافها وأغراضها على نحو أطال أمد الحرب وسمح بأن يكون خيار (تدمير الدولة) وهندسة دولة دينية للإرهاب هو السائد، بدلا من حل (سياسى) يتوافق عليه جميع الأطراف.
إذ أعلنت السلطات السورية أن ارهابى "جبهة النصرة" – أحد اذرع تنظيم القاعدة قاموا باستهداف وقتل مجموعة من علماء الذرة السوريين العاملين فى هيئة الطاقة النووية عند منطقة البرزة بريف دمشق، وقد أسفر الحادث عن مقتل أربعة من العلماء وشخص ايرانى فى حين جرح شخص هو الوحيد الذى تبقى على قيد الحياة.
ومثل ذلك الحادث وما أسفر عنه يمكن أن يكون أمرا عاديا فى بلد يسقط فيه- يوميا- عشرات القتلى والجرحى منذ أن بدأت الانتفاضة على نظام بشار الأسد فى 2011، إلا أن طبيعة الضحايا (علماء ذرة) واستهدافهم المقصود بالقتل لابد أن يثير – من جديد – بعض الشكوك والهواجس والريب حول مسئولية الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) عن الحادث، ليصبح تطورا منطقيا لسلسة طويلة من الحوادث، ضمنها قيام القاذفات الإسرائيلية بضرب مركز للبحوث العلمية فى منطقة جمرايا بريف العاصمة فى الخامس من مايو عام 2013، وهو ما عده الخبراء استهدافا للنشاط العلمى النووى السورى، تعزز بهجوم آخر فى السادس من يوليو بنفس العام على نفس مركز البحوث، وفوق ذلك تذكرون- جميعا- الغارات الإسرائيلية فى السنوات الأخيرة من القرن الماضى فى ناحية (البوكمال) شمال سوريا على ما اصطلح على تسميته أحد مراكز البحوث العلمية هناك.
الطبيعى أن تكون القوة العلمية والبحوث النووية فى سوريا مستهدفة من جانب إسرائيل، التى تجد فى ذلك الاضطراب واسع النطاق بسوريا فرصة ذهبية لتصفية أى تقدم أحرزته سوريا فى ذلك المجال، وبخاصة مع العلاقة الخاصة التى تربط طهران بدمشق والمرجحة حدوث تعاون بينهما فى مثل ذلك المجال (لاحظوا وجود شخص ايرانى ضمن ضحايا الهجوم على العلماء بناحية القلمون الملتهب، ولاحظوا – كذلك- التصريح القاطع الذى أدلى به قائد جهاز الأمن الداخلى لحزب الله عن مسئولية جبهة النصرة- عبر علاقتها بالموساد- عن قتل العلماء السوريين).
الموضوع لا يتعلق بسوريا وحدها، وإنما هو نهج اسرائيلى تواصل منذ زمن بعيد، بعد اغتيال عالمة الذرة المصرية د. سميرة موسى فى الولايات المتحدة، أو وفاة الدكتور مصطفى مشرفة على نحو يرجح تسميمه، أو اغتيال العالم المصرى د. يحيى المشد الذى كان يعمل فى إطار المشروع النووى العراقى فى شقته بباريس، فضلا عن قيام القاذفات الإسرائيلية بقصف المفاعل النووى العراقى (تموز) وتدميره.
فإذا أضفنا على قراءتنا لصحيفة السوابق (التاريخية) لإسرائيل والتى تتضمن عددا كبيرا من الحوادث تسير فى اتجاه واحد هو تحطيم القوة العلمية أو النووية أو اقانيمها عبر العصور، فإن اضطلاع الموساد بحادث برزه فى ريف دمشق يعد أمرا منطقيا، وبخاصة ضمن العمليات التى تضطلع بها إسرائيل بنفسها ولا تلجأ فيها لاستعمال الولايات المتحدة الأمريكية وضغوطها السياسية كما حدث بالنسبة للحالة المصرية زمن الرئيس ليندون چونسون وإصرار واشنطن على تفتيش مفاعل انشاص النووى، أو كما حدث بالنسبة للعراق قبل غزو 2003 وادعاء كولن باول وزير الخارجية الذى أيده العميل محمد البرادعى بامتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.. أو كما يحدث منذ فترة ليست وجيزة فى ملف إيران النووى.
وفوق ذلك كله فإن قيام (جبهة النصرة) بالعملية لحساب الموساد الاسرائيلى لا يأتى شيئا مستغربا أو عجيبا بل هو طبيعى يتساوق مع القياسات العقلية والحسابات المنطقية.
لأن إسرائيل تعودت استخدام عناصر الإسلام السياسى والتشدد الارهابى الدينى فى المنطقة لخدمة أغراضها وبالذات فى الدول الوطنية التى ترى إسرائيل تهديدا لركائز الأمن القومى العربى، لا بل أن تل أبيب قامت بتصنيع بعض الفصائل الإسلامية الإرهابية لخدمة أغراضها كما فعلت بدفع الشيخ أحمد ياسين لإنشاء حماس عام 1978 لتكون شوكة فى جنب ياسر عرفات، ويتواصل دورها القذر حتى الآن ضد الرئيس أبى مازن، وضد نشأة الدولة الفلسطينية، ولا نغفل- هنا – عد الدور المنحط الذى لعبته حماس فى إسقاط النظام الوطنى المصرى خلال عملية يناير عام 2011.
وفى هذا الإطار فقد شهدت الساحة الشرق أوسطية تعاونا إسرائيليا/ أمريكيا فى هندسة قوى الإرهاب الدينى واستخدامها سياسيا وامنيا ثم تصفيتها على نحو متكرر شهدناه بالنسبة لأسامة بن لادن والقاعدة أو – أخيرا – بالنسبة لتنظيم داعش الذى ظهر فجأة ليبدو خطرا لا يمكن دفعه أو حصاره ولتبدو غارات التحالف الدولى ضده قليلة الفاعلية والجدوى إلى حد كبير، وهو ما تقول واشنطن ان اثره لن يبين إلا بعد سنوات!!
وإذا أردنا إضافة ورقة دامغة فى هذا المجال، فإن ما أبدته كل من واشنطن وتل أبيب من احتضان ومساندة وتعضيد لجماعة الإخوان الإرهابية فى مصر لم يأت من فراغ وإنما فى إطار تعاون تلك الجماعة (الأم لكل تنظيمات الإرهاب الدينى) لخدمة أهداف الأمن الاسرائيلى، وعلى رأسها منح قطعة من ارض سيناء المصرية للفلسطينيين لتكون ظهيرا لغزة يساعد على قيام دولة مستقلة عن الضفة التى سيتم ابتلاعها إسرائيليا بالكامل، وترتيبا على ذلك كله فإن ملف عودة اللاجئين طبقا لقرار الأمم المتحدة رقم 194 ستتم ضبضبته، وسيصبح من رابع المستحيلات تحقيق أى تقدم فيه.
أضف إلى ذلك أن الدور الذى بدا محمد مرسى (أول جاسوس مدنى منتخب قابلا للقيام به فى سوريا، توافق – بقوة – مع استهدافات الأمريكية والإسرائيلية سواء بإعلانه قطع العلاقات مع دمشق، أو تنادى بعض جماعات الإرهاب – التى احتضنها- للتطوع والارتحال لسوريا من اجل الجهاد لإسقاط النظام السورى.
ومن كل ما سبق فقد بدا لى الهياج الذى تبنته بعض وسائل الإعلام الرسمية العربية أو تلك التى تربطها وشائج قوية بالجماعات الإرهابية المتشددة، والذى اعتمد خطاب التشكيك فى الرواية السورية الرسمية لحادث استهداف علماء الذرة السوريين أمرا لا يتمتع بمصداقية كبيرة مهما كانت مواقفنا أو موقف هذا الطرف أو ذاك من نظام بشار الأسد.
إذ انبنت رؤية خصوم النظام السورى للحادث سواء كانوا من المتطرفين أو من دول ترى ضرورة زوال نظام الأسد، على أن دمشق تحاول التوظيف السياسى لواقعة ضرب حافلة العلماء فى برزه، وان الذين ماتوا ليسوا علماء ذره بل مهندسين زراعيين يعملون فى هيئة الطاقة النووية، وان الجريح الذى نجا فى الحادث (نضال غازى) هو الوحيد الذى يحمل شهادة نووية.. و(لو كان ذلك- حتى- صحيحا فإن استهدافه فى ذاته ربما يكون مبرر العملية).
لا بل اننى أرى محاولة افتعال التضارب بين الرواية الرسمية السورية للحادث، وبعض الروايات الإعلامية العربية أو روايات المتطرفين والإرهابيين، هى – فى حد ذاتها – تأكيد على صحة رواية محاولة الاغتيال، لأن الانفعال "المتزرزر" لنفى الواقعة هو – قطعا – محاولة لإضعاف موقف النظام السورى على حساب الحقيقة.. والمؤكد أن موضوع استهداف علماء ذره سوريين هو أمر لا يرتبط بنظام بشار الأسد بالذات وإنما هو أمر وثيق الصلة بالقوة العلمية والسياسية العربية الشاملة، وبركائز الأمن القومى العربى على إطلاق ذلك المفهوم.