الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

رؤية الآخر فرض عين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ ما يزيد عن نصف القرن، حين كنت وأبناء جيلي نبدأ خطواتنا نحو فهم العالم، كان من حسن حظي أن أوائل من ساهموا في تكويني الفكري، لم يفرضوا حظرًا على تعرفي بشكل مباشر على الفكر المخالف.
كانت إطلالتي المبكرة على الفكر الإسلامي في مسجد صغير أمام منزلنا عبر شيخ اتسع صدره لتساؤلاتي الجامحة دون أن يحمر وجهه أو يستشيط غضبًا، وحين التقيت فيما بعد بمن تضيق صدورهم بتساؤلاتي الأقل جموحًا انصرفت عنهم.
ولم أكن قد بلغت السادسة عشر حين وطأت قدماي الجامعة حيث تلقفتني مدرسة عين شمس في علم النفس، ووجدت نفسي في خضم خليط من المدارس الفكرية، لم يكن غالبية أساتذتنا آنذاك نَقَلَة للعلم فحسب، بل كانوا أقرب للدعاة منهم للمدرسين المحترفين، على عكس ما نشهده اليوم لدى كثرة من الأساتذة الذين قد يكونون على معرفة بتخصصاتهم الدقيقة ولكنهم يفتقدون أي ملمح يشير إلى انتمائهم الفكري فضلًا عن السياسي بطبيعة الحال.
لم يكن أساتذتنا في مدرسة عين شمس لعلم النفس، يعرضون لتيارات ومدارس علم النفس على سبيل التعريف بها فحسب، بل كانوا "يؤمنون" بما يقولون و"يتحمسون" له: كان زيور مؤسس المدرسة يعلمنا التحليل النفسي معلنًا أنه شخصيًا "محلل نفسي فرويدي أرثوذكسي"، وكان يوسف مراد يعبر عن قناعته والتزامه بالتيار التكاملي في علم النفس، في حين كان عبدالمنعم المليجي يتبنى التيار الدينامي السائد في علم نفس الشخصية، وكان حديث "المعيد" أنيس منصور في الفلسفة الوجودية حديث الداعية الذي لا يألو جهدًا في تشكيكنا في العديد من مسلماتنا الفكرية، و كانت محاضرات علي عيسى وليلى الحمامصي في الأنثربولوجيا وتاريخ الحضارة تكرس الدعوة لتبني منهج للبحث يناقض قواعد القياس النفسي الصارمة التي كان يدعونا لويس كامل للالتزام بها، متفقًا في تلك الدعوة مع ما يدعو إليه السيد محمد خيري من اعتماد العلم الصحيح على الكم والرقم والتجريب، ما يتناقض تمامًا مع ما كان يقول به زيور من أن الرقم ليس سوى "مجهلة" فيما يتعلق بفهم الإنسان.. وفي خضم تلك التيارات المتضاربة لم يكن حيال الطالب المثقف إلا أن يتبنى منظورا فكريا يرتضيه ويتبناه ويدافع عنه.
وحين اقتربت من الفكر اليساري الماركسي، كان من حسن حظي أيضًا، أن ذلك الاقتراب قد جرى في ظل حركة مراجعة فكرية طالت العديد من ثوابت ذلك الفكر، ولم أستطع في هذا المناخ أن أقرأ مثلاً عن "المرتد جارودي" دون أن أقرأ ما كتبه ذلك المرتد في كتابه "ماركسية القرن العشرين"، أو أن أقرأ عن المرتد "كاوتسكي" أو "خيانة التيتوية" أو "انحراف الرفاق الصينيين" دون محاولة الاطلاع على ما كتبه أولئك "المرتدون والخونة والمنحرفون"،
وحين التزمت إثر هزيمة يونيو 1967 بضرورة التعرف على إسرائيل، اهتممت أكثر ما اهتممت بقراءة العقل الإسرائيلي، والواقع الإسرائيلي، في المصادر الإسرائيلية التي تحفل بطبيعة الحال بكل ما يتناقض مع تكويني الفكري والوطني، دون أن أخشى أن يهتز انتمائي الوطني، أو التزامي العلمي على حد سواء، ولم يختلف الأمر كثيرًا عندما حاولت إعادة تعميق انتمائي وفهمي للإسلام، حيث حرصت على قراءة أشد ما كتبه المهاجمون للإسلام قسوة وبذاءة وجموحا، دون أن أجد في ذلك ما يمس اليقين، أو يزعزع العقيدة.
لم تكن السطور السابقة مجرد نظرة أسى أو حنين إلى الماضي، بقدر ما هي تعبير عن قلق من الحاضر وإشفاق من المستقبل.. إن العديد من شباب النخبة المثقفة النشطة سياسيًا، والذين يمثلون قاطرة المجتمع بمختلف تياراته، يؤثر كل فريق منهم الانغلاق على تياره الفكري، فلا يقرأ إلا لمن يتفق معه في الرأي، بل ويكاد بعضهم أن يفخر بذلك غاية الفخر مرددًا "إنني لا أطيق قراءة كتابات الآخرين الغثة المليئة بالأكاذيب" فإذا ما تساءلت: ترى وكيف تعرف إذن ما يقوله هؤلاء الآخرون لتدحضه على الأقل، كانت الإجابة "إنهم لا يقولون شيئًا له قيمة، ثم إنني أعرف آراءهم من خلال كتابات رموز التيار الذي أنتمي إليه"
إن ذلك الاتجاه ينتشر بين العديد من قادة الفكر من مختلف الاتجاهات، كثير منهم يكتفي بفكره، مغلقًا عليه عقله، سعيدًا بما لديه، ولا أحسبني مبالغًا في قلقي إذا ما استشرفت المستقبل، فمثل هؤلاء إذا ما اضطروا مكرهين على تلقي فكر يطعن في أفكارهم ومعتقداتهم بل ومقدساتهم، ولم يستطيعوا أن يصموا آذانهم عن الاستماع إليه، لن يكون أمامهم إلا طريق من ثلاثة كلها محفوف بالمخاطر: إما أن يكفروا بفكرهم القديم منتقلين بنفس الحماس والانغلاق إلى الضفة الفكرية الأخرى، أو أن يزعزعهم الشك في الجميع فينهار يقينهم في كل فكر، أو أن يبلغ بهم الخوف من اهتزاز يقينهم الهش مبلغه فيندفعون يائسين نحو تدمير ذلك الآخر الذي يهدد سكون أفكارهم.
خلاصة القول إنك إذا لم تر الآخر فإنك لن ترى نفسك، ويظل فكرك بل ووجودك على حرف.