تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
قبل سنوات ذهبت إلى البنك لأجرى معاملة بنكية عندما طلب الموظف بطاقتي وسألني إن كنت أعمل بالصحافة فعلا؟ فلما أجبته سألني فى أي مجال؟ قلت: الاقتصاد.
قال لى هل أطلب منك خدمة ستبقى جميلا إلى الأبد؟ فرحبت مشترطا استطاعتي.
قال لى أنه يريد أن يترك وظيفته فى البنك التجاري ليُنقل إلى أيٍ من البنوك الإسلامية، طلب منى أن أحدث أى أشخاص أعرفهم ليتموا له النقل، لأنه لا يطيق العمل ويشعر أن كل أمواله وأحواله حرام.
حكى لي أنه لا ينام الليل متأثرا بعذاب الضمير لأنه يعمل فى الربا ويسهله وينظمه ويساعد على تفشيه.
رجانى أن أتوسط له لدى أى من قيادات البنوك كى يخرج من الظلمات إلى النور ويستكمل حياته فى طريق الهدى.
حاولت أن أناقشه وأحاوره وأقنعه بأن الفائدة البنكية ليست ربا، لأن هناك معدل تضخم وأن قيمة الفائدة أقل كثيرا من ذلك المعدل، لكنه لم يقتنع لأن الشيخ فلان والشيخ علان أفتوا وما داموا قد أفتوا فليس لأحد أن يفتح فمه.
أشفقت على الرجل -وما زلت- من تلك البلبلة التى وقع فيها بعد أن استمع لمن أفتوا بأن فائدة البنوك حرام. حمّروا عيونهم ورفعوا أصواتهم وأرهبوا الناس من عذاب بئيس لو تعاملوا بالفائدة غافلين أن الربا فى الأصل هو دين ينمو استغلالا للاحتياج، وليس استثمارا لمال أو تمويلا لمشروع.
منذ أكثر من قرن من الزمان أفتى شيخ الإسلام محمد عبده بحل الفائدة البنكية، وقدم للمسلمين اجتهادات رائعة تحقق التطبيع الكامل بين المسلم والمدنية الحديثة، لكن يبدو أننا نرتد للخلف بسرعة مذهلة، ففى سنوات صعود التطرف نشر المتسلفنون خرافاتهم وسقطاتهم العقلية ليطرحوا فتاوى فى كل شىء ويحرموا الحياة وينفّروا الناس أفواجا من دين الله.
الفائدة على الودائع حرام، والاقتراض من البنوك ربا، والتأمين على المنشآت غير جائز، وشهادات الاستثمار مخالفة لصريح الدين، والمضاربة فى البورصة ميسر، هكذا يتقولون على الله كذبا مثلما قالوا من قبل بحرمة أعياد الأم والميلاد والحب، والتصوير والموسيقى والغناء والفنون الجميلة، وكأن الغاية المُثلى لدين الله هو تعذيب البشر.
فى الأيام الأخيرة صدرت فتاوى عديدة من لُحى كاذبة، وتجار دين، وجهلاء بالفطرة بحرمة شهادات استثمار قناة السويس لأنه ربا فاحش، وانساق من انساق خلفهم متناسين أن الإسلام لديه أبواب رحبة فى الفقه الإسلامي تخص التعايش مع التطور.
ولأن الدين خير وهدى، وإخراج للناس من الظلمات إلى النور، لا ترهيب وتخوين وتكفير فقد ولد فقه الأولويات الذى انتهى إلى أنه أينما كانت مصلحة الأمة فثم شرع الله، لكن الذين تنطعوا وتطرفوا وتعصبوا لا يريدون خيرا بالناس ويستسهلون تحويل حياة مَن حولهم إلى جحيم كل يوم بفتاوى مغرقة فى الظلامية.
يذهب الزبدُ جفاء، أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض، سلامٌ على المٌيسرين، ودعاء متواصل بالجزاء الأوفى للمجتهدين ومحققى مصالح العباد والبلاد .