تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تصدرت أزمة دير وادى الريان بالفيوم اهتمامات المواقع القبطية وحوارات شبكة التواصل الاجتماعى، وكشفت عن اختلالات عديدة طالت كافة اطرافها، وفى مقدمتها إدارة الكنيسة للأزمة، والدير نفسه، والسكان القريبين منه، ودوائر وزارات البيئة والأثار، وحتى انفعالات المهتمين بالشأن القبطى، وبات لزاماً أن نقترب من الأزمة بشكل موضوعي للتعرف على ابعادها، وقبلها نتوقف مع منظومة الرهبنة نفسها لنجد:
1 ـ أن الرهبنة هى المدخل الرسمى لتولى مقاليد تدبير الكنيسة على مدى قرون طويلة، ورغم هذا لم تنل القدر الكافى من البحث والتنقيب والتقييم والتقويم.
2 ـ والرهبنة ذات مذاق شعبى وتأثير ميتافيزيقي لا يبارى من شأنه حال تفاقم هذا المذاق الشعبى والميتافيزيقى تضليل الشعب ايمانيا وتغييبه عن واقعه ساعيا نحو توافه الامور تاركا عمق الإيمان، ويزداد هذا كلما تحركنا باتجاه التعتيم وتسطيح التعليم والإنفصال عن تقليد الآباء وتعليمهم الصحيح وكأننا بلا جذور.
3 ـ والرهبنة "منطقة جذب" فى ظرفنا هذا الذى يحفل بكم من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتباينة والتى تتجمع لتكون "عوامل طرد مجتمعية" يتعاظم فى ظلها "التوجه الرهبانى" باعتباره المنفذ للخلاص.
4 ـ والرهبنة تحظى بتركيز إعلامى كنسى معاصر عبر كثير من أدبيات الكنيسة المكتوبة والمتواترة، على أنها مرتبة روحية أعلى من مرتبة الحياة فى العالم، واستقر تبعاً لذلك عند كثيرين أن الحياة فى العالم أمر غير مستساغ، حتى لقد سارع البعض ليعلن عبر كتب مطروحة بالمكتبة القبطية أنه إكتشف أن هناك "علمانيون أبرار"، وهذا التصور غير الكنسى مؤشر خطير يحتاج إلى أكثر من انتباهه.
وتأسست الحركة الرهبانية ـ بحسب إجماع الدارسين ـ على ركائز أربع هى: [البتولية ـ الوحدة ـ التجرد (الفقر الإختيارى) ـ الطاعة]، ويحوط هذا كله " فكر الإتضاع " الذى يحمى مسيرة الراهب فى سعيه للأبدية،
ومرجع قوة التوجه الرهبانى وصموده أمام المحن والزمن والمتقلبات العاتية، فى زمن القوة، أنه توجه شعبى لم يحركه أو ينظمه سوى شهوة الإلتصاق بالفادى فى اختبار حب جارف لم يقو العالم أو الذات أو الشيطان، ثلاثية الأعداءـ مجتمعين أو منفردين، على الوقوف أمامه أو احتوائه أو عرقلة خطواته.
لكن الاحداث والظروف تتبدل وتتغير عبر التاريخ والزمن فيتغلغل المنهج الرهبانى النسكى الى الكنيسة حتى يصبح هو الفكر الغالب والمسيطر الامر الذى افقد الكنيسة اتساقها بل وسلامها مع العالم ومع البيئة المحيطة تلك البيئة التى هى هدف خدمة الكنيسة , فانفصلت الكنيسة عن واقعها، ما افقدها أن تكون ملح الأرض ونور العالم.
من هنا تبرز أسئلة هامة، من خلال عقد مقارنة بين الواقع الرهبانى الكنسى المعاصر وبين الجذور، نطرح بضع أسئلة بحاجة إلى إجابات موضوعية أمينة ومجردة:
ـ كيف، ولماذا، أصبح الخطاب الرهبانى هو السائد على الكنيسة والغالب على مضمار الخدمة الرسمية الكنسية ؟!.برغم كون الرهبنة، توجه شعبى و منهج نسكى تقشفى خالص وخاص بمن يقبلونه طواعية ولا يمكن بأى حال ان يكون هو منهج الكنيسة كلها، و كيف تطور الامر إلى الدرجة التى صارت فيها مقاليد المراكز التدبيرية القيادية قى الكنيسة فى يد الرهبنة وحدها؟!.
ـ ثم من يخضع لمن: هل تخضع الكنيسة وهى الاصل والام والاساس والكل للرهبنة وهى الفرع والجزء
ونحن لا ندعى أننا نملك إجابة دقيقة وعلمية على هذه التساؤلات، وإن كنا ننتظرها ممن يملكونها، شريطة أن تكون موثقة وموضوعية وكتابية آبائية هادئة!!.
ملاحظتان: ثمة ملاحظتين لا تخطئهما عين دارس لتاريخ حركة الرهبنة، نتوقف أمامهما ونطرحهما:
الأولى: أن رواد الرهبنة الأوائل ـ فى عصور الإزدهار ـ لم يحصلوا على أية درجة كهنوتية بل رفضوا هذا بإصرار، وهربوا من الضغوط المتوالية من قِبل الكنيسة لإعطائهم أياً منها حتى درجة الشموسية، وكان الهروب لا من باب الإتضاع بقد ما كان مبعثه إمتلاكهم لقدر كبير من الوعى الروحى المستنير والمستقبلى، المستوعب للهدف الذى من أجله خرجوا من العالم، وتيقنهم من أن خروجهم إلى درجات الكهنوت الرسمية وانفتاحهم عليها سيقودهم إلى مخاطر عدة لعل منها تحمل مشغولبات جديدة تفوق تمتعهم بالوحدة مع المسيح وفيه، ثم الصراعات التى يمكن أن تتولد فيما بينهم عندما يطرح سؤال يفرزه تنظيم العمل الجديد: من يجلس على اليمين ومن يجلس على اليسار؟ وطاحونة الأحقية المدمرة.
الثانية: أن الآباء الأساقفة المعاصرين الذين تناولوا الحركة الرهبانية فى كتاباتهم، لم تستطع كتاباتهم أن تخفى أنيناً مكتوماً يعتمل فى قلوبهم، وأزعم أن هاجسهم فيه أن يجدوا فرصة للعودة إلى قلاليهم!!.
فالرهبنة عند المتنيح الأنبا يؤانس أسقف الغربية [ مسلك تعبدى وطريق اعتزال وانفراد فى الصحارى والبرارى والقفار، ولها مراتب ودرجات روحية مستقلة عن درجات الكهنوت. ويذكر مؤكداً: أن آباء الإسكيم (مؤسسى الرهبنة) قد حرصوا طيلة حياتهم على عدم نوال أية درجة كهنوتية حفاظاً على الرهبانية كطريق للتعبد الخالص وصوناً لفكرتها الأصلية نقية من كل هدف للبلوغ إلى مراتب الكهنوت.
ويرى نيافة الأنبا باخوميوس أنه كمبدأ فإن الكنيسة حالياً تسمح للرهبان بالمشاركة فى مسئولياتها للضرورة، ولكن لا يجب على الرهبان مزاولة أى عمل بالكنيسة لأن حياة المجتمع تمنع الراهب من ممارسة التأملات الفردية الضرورية له ليكون مع الله.
ـ والرهبنة عند الأب متى المسكين "دعوة" لها خصوصيتها ولها منهج معين فى السلوك والصلاة، وتختلف عن دعوة الكهنوت ويرى أن: المدعو للرهبنة عليه : أن يبتعد عن العالم والرئاسات وأن ينتبه إلى أن الحرب ضده ستكون بحب الخدمة وسط العالم، وهى إلحاح من اللاشعور للهروب من الواقع.
وتتأكد نفس المعانى فى دراسة للأستاذين الدكتور عزيز سوريال والدكتور منير شكرى، إذ يريان: أن الرهبنة حركة علمانية لم يكن للكنيسة دخل فيها، ولم يكن الرهبان سوى جمهرة من العلمانيين الأتقياء، وكان تركيز الراهب منصب على وسائل خلاصه. ولم يُرفع أحد إلا بشكل استثنائى جداً إلى مرتبة الكهنوت وخدمة لجماعته.
ويفسران إصرار الأنبا باخوم أب الشركةـ على عدم نوال أبنائه أية درجة كهنوتية بأنه يرى ذلك حتى لا يحدث شجار وحقد أو شقاق بين الإخوة، وبحسب قوله: أنه كما أن الشرارة التى تسقط على القمح كفيلة بأن تقضى على عمل سنة بكاملها هكذا فإن الفكرة فى أية رتبة كهنوتية قد تشعل فى القلب الطمع فى أشد صوره، وتقضى على السلام الذى يرفرف على الدير.
والاقتراب من الرهبنة يكشف لنا عن أربع اشكاليات اساسية:
الرهبنة وعلاقتها بالكهنوت والإعتراف: كانت الأديرة، فى سنى نهضتها، تستعين بكاهن من الكنيسة، فى العالم، لمباشرة المهام الطقسية واتمام الأسرار، وهو ما يطلق عليه عادة " قس الأسقيط"، وفى تطور لاحق شهدت توسعاً فى رسامة الكهنة، من الرهبان، فى الأديرة بشكل ملفت للنظر، وأصبح التكالب على شرف الحصول على رتبة الكهنوت هدفا يضيع بجانبه الهدف الحقيقى, كما ترتب عليه اعتراف الشباب من الجنسين على يد هذا الكاهن الراهب الامر الذى يجلب على الراهب ضغوطا ومحاربات لا حصر لها ناهيك عن مدى توافق ارشادات الراهب مع متطلبات حياة العالم.
الرهبنة التقليدية والخادمة والمراكز التدبيرية: فالأمر يستوجب الإعتراف بالرهبنة الخادمة فى تواز مع الرهبنة التقليدية، والإفادة من خبرات الكنائس التقليدية المثيلة فىهذا الشأن.
المؤسسات الديرية والدور البحثى والتعليمى: يجب أن تتحمل الأديرة مسؤلية حقيقية وعميقة تجاه الكنيسة تكون ابعد من مجرد انتاج بعض من الاحتياجات الغذائية الى القيام بدور فعال فى البحث العلمى والتعليمى وتبنى حركة بحث وترجمة وتعريب، والقراءة المتأنية للتاريخ الكنسى تكشف لنا أن الأديرة كانت الحارس الأمين للعقيدة والسند القوى للكنيسة وقت الأزمات الفكرية الإيمانية.حين كانت الاديرة تهتم بالبحث والدراسة والعلم الى جانب اهدافها الروحية.
النذر الرهبانى: حق العودة: طرحت "قضية النذر الرهبانى" نفسها على الساحة الفكرية الكنسية، وصار السؤال: هل يمكن أن يعود من إختار لنفسه التوجه الرهبانى إلى العالم؟ أم يعد هذا كسراً للنذر؟!. وفى يقيننا أن النذر الأول فى حياة المسيحى ـ بصفة عامة ـ لا بد وأن يكون باتجاه الحياة الأبدية، وإن تعددت الطرق إلى تحقيق هذا النذر.
فهل تبادر الكنيسة بطرح هذه الاشكاليات فى مؤتمر علمي عام يجنبها عديد من المتاعب والاخفاقات؟.
أما ازمة وادى الريان فنفرد لها المقال القادم.