تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
من الشائع أن المرء كلما اقترب من التشدد والأصولية والعقائدية ضاقت مساحة المناورة المتاحة له باعتبار أن غالبية تفاصيل بنائه الفكري تعتبر من اليقينيات الثابتة التي يعد التزحزح عنها تراجعا عن المبادئ، يصدق ذلك على الجميع أفرادا وجماعات من أقصى اليمين إلي أقصي اليسار.
وكان منطقيا أن نتوقع أن تسري تلك القاعدة على أبناء التيارات الإسلامية العقائدية في بلادنا الذين أعلنوا دوما أنهم مهما تبدلت مواقفهم السياسية وتحالفاتهم فإنهم يظلون ثابتين على مبادئهم حريصين على الإفصاح عنها مهما تعرضوا لأذى ومهما واجهوا من صعاب؛ وشهادات من واجهوا السجون والتعذيب منهم تؤكد ذلك وتعتبره وبحق محلا للفخر والاعتزاز.
ولعلنا لا نتجاوز الحقيقة إذا وضعنا على رأس تلك المبادئ والمسلمات الدعوة الصريحة لإقامة الدولة الإسلامية؛ ويندرج تحت هذا المبدأ الشامل المواقف المبدئية من اختلاط النساء بالرجال، وكراهة ارتفاع أصوات النساء؛ والدعوة للحجاب، والموقف المتحفظ حيال الموسيقى والغناء، وحيال النصارى والكنائس، وحيال اليهود “,”أبناء القردة والخنازير“,”، وكذلك الموقف من الغرب “,”الصليبي“,” واستعمال لغته الأجنبية في مخاطبة الجماهير، وقد كانت غاية المرونة بالنسبة لأبناء مثل تلك التيارات تتمثل في عدم الإفصاح عن توجه معين في وقت معين دون تبني توجه معاكس معلن للمبادئ العقائدية الملزمة، فلقد شهدنا عقب ثورة يناير كيف أن الشعار الشهير “,”يا يهود يا يهود جيش محمد سوف يعود“,” قد اختفى، وما يستوقف الانتباه أن ذلك الاختفاء لم يقتصر على خطاب الرئاسة بل بدا نقيضه بشكل ما وهو ما يمكن فهمه؛ ولكن ما يستعصي علو الفهم هو اختفاؤه أيضا من الخطاب الجماهيري لجماعة الإخوان المسلمين.
دار كل ذلك في ذهني حين بدأت الجماهير الكثيفة تتدفق في العديد من ميادين المدن المصرية مطالبة برحيل الرئيس، وتتجمع في المقابل جماهير مساندة للرئيس المعزول مطالبة بعودته وبدا للبعض آنذاك أنه من المناسب استعادة حماقة إغلاق عدة محطات تعارض التيار العام؛ وبحكم عادة قديمة متأصلة أخذت أبحث عن ذلك الصوت الإسلامي المختفي فوجدته دون عناء في عدة قنوات بديلة أخذت على عاتقها البث المباشر من رابعة العدوية.
كانت الرايات السوداء الجهادية والخضراء الإخوانية ترفرف إلى جانب العلم المصري، وكانت الهتافات تدوي “,”إسلامية إسلامية مصر ستبقي إسلامية“,” وكان الخطباء يتوالون على المنصة يدينون العلمانية والعسكر والنصارى وكبيرهم، ويدمجون بين الشريعة الإسلامية والشرعية الديمقراطية.
وبدأت المطالبة بالدفاع عن الشريعة تخفت شيئا فشيئا وتغيب معها الرايات السوداء والخضراء ليرفرف- فحسب- العلم المصري ولتحل نغمة الدفاع عن الشرعية والديمقراطية محل نغمة الدفاع عن الشريعة والإسلام؛ واختفى الهتاف الأثير “,”إسلامية إسلامية“,” ليحل محله “,”مدنية مدنية“,”، ولترتفع أصوات الموسيقى تصدح بأغنيات وطنية تتغنى بحب مصر ويرددها المعتصمون والمعتصمات، ولتظهر على المنصة سيدة سافرة يتم تقديمها باعتبارها “,”مسيحية“,” محبة للوطن دون استخدام التعبير الأثير لوصفها باعتبارها “,”نصرانية تهتف دفاعا عن الشرعية والديمقراطية“,” ويرتفع هتاف النساء المعتصمات يهتفن لمصر “,”وطن الجميع“,” ويرتفع صوت المنصة فخرا بمشاركة المرأة ليس في المظاهرات فقط بل في الاعتصام أيضا، ولأستمع بعد ذلك لشيخ يبدو أزهريا يلقي في جموع المعتصمين المصريين خطابا ملتهبا باللغة الفرنسية لترتفع اللافتات المكتوبة باللغات الأجنبية مطالبة بعودة الرئيس محمد مرسي.
وأستعيد المواقف “,”المبدئية“,” لتيارات الإسلام السياسي خلال مجريات ثورة يناير وتوابعها من إدانة جارحة لمشاركة النساء في المظاهرات وارتفاع أصواتهن، وطعن جارح لهن ولأزواجهن لمبيتهن في الاعتصامات خارج بيوتهن؛ وإدانة لرفع بعض الجماعات للافتات مكتوبة بالإنجليزية، وتحرج من نشر صور النساء المرشحات للمجالس التشريعية، إلى آخر تلك الممارسات.
ترى هل من تفسير لذلك سوى أن السياسة هي السياسة أولا وأخيرا؟