يمكن أن يأتى فى ذهنك أكثر من مائة إجابة عن هذا السؤال الذى يبدو بسيطا.. ستقول لأنه خلصهم من كابوس جماعة الإخوان ومن رئيسهم الذى جاء ليبيع مصر ويفرط فى حدودها ويتجسس عليها، وانحاز لهم فى معركتهم الكبرى التى خرجوا خلالها ليحصلوا على حريتهم، ووقف ضد الإرهاب الذى أطل بوجهه القبيح على كل بيت فى مصر ولا يزال، وتحدى العالم من أجل كرامة بلده، ويتحدث إلى الفقراء والبسطاء وكأنه واحد منهم.. وكل هذه الأسباب مقبولة.. ويمكن أن يكون كثير منها صحيحا، لكننى أسأل عن شىء آخر تماما.
عن النقطة الحاسمة التى جعلت شعبا لا يملأ عينه إلا التراب يقبل على قائد عسكرى لم يكن معروفا إلا لدوائر قليلة جدا قبل ثورة 25 يناير، وحتى بعد الثورة لم يظهر إلا مرات قليلة ونادرة كل هذا الإقبال.
عن لحظة الالتقاء النفسى بين جموع غاضبة ورجل هادئ.. لم يمسك به أحد حتى الآن وهو غاضب.
عن حالة لم تتكرر منذ سنوات بين شعب كفر بكل القادة ورجل قادم من قلب حى شعبى يتحدث بحب بالغ وحنان لافت، جعل كل من يسمعه يطمئن إلى أنه لن يكسر خاطر أحد أبدا.
هل تريدون إجابة واضحة وقاطعة بالنسبة لى على الأقل؟
لقد أحب المصريون السيسى لأنه بالنسبة لهم بطل، والمصريون فى عمق تكوينهم النفسى يحبون الأبطال، يتغنون بحكاياتهم وأمجادهم وبطولاتهم، يصنعون من قبورهم أضرحة ومزارات مقدسة، يقدمون بين أيديهم قرابين لنيل الرضا.. وعلى طول التاريخ المصرى.. كان المصريون يبحثون عن أبطالهم، فإن لم يجدوهم اخترعوهم.
لم يخترع أحد عبد الفتاح السيسى.
لم ينخدع المصريون بما قيل عن إخوانيته تبريرا لاختيار محمد مرسى له وزيرا للدفاع خلفا للمشير طنطاوى، ولم ينخدع أحد بما كتبه الإخوان عنه فى مواقعهم وصحفهم لإيهام الجميع أنه واحد من الجماعة كان ينتظر الإشارة ليبدأ العمل معهم.
كانت الذهنية الشعبية حاضرة، أجابت دون أن يطلب منها أحد عن الأسئلة الملتبسة عن انتماء السيسى السياسى الذى لم يكن مطروحا للنقاش من قبل.
فلو كان إخوانيا لما استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه فى صفوف الجيش، فقد أسدل الستار على عصر مبارك وهو مدير للمخابرات الحربية.. فكيف لرجل فى منصبه أن يكون إخوانيا أو حتى متعاطفا مع الإإخوان.
ثم أنه بوضوحه وصراحته لا يمكن أن يكون من بين خلايا الجماعة النائمة، أكد ذلك من عرفوه عن قرب، فانتماؤه للمؤسسة العسكرية مقدم لديه على أى وكل انتماء، وحب للوطن هو الأبقى لديه.
هل كان هذا يعنى شيئا بعينه؟
بالطبع.. فمن الوهلة الأولى لظهور السيسى على المسرح السياسى كبطل يمثل نموذجا واضحا لإنقاذ المصريين من أنياب جماعة قررت أن تحول المصريين إلى مواطنين من الدرجة الثانية فى وطنهم، وجد من يفسر له كل ما يصدر عنه من مواقف وتصريحات وانفعالات، كان هناك ومن اللحظة الأولى قرار لدى المصريين أن يقبلوا السيسى إلى النهاية، ويدافعوا عنه حتى قبل أن يسمعوا منه، فهو صادق ومصدق لديهم.
قرر المصريون أن يصعدوا بعبد الفتاح السيسى إلى مرتبة الرمز.. لأنهم بالفعل كانوا يحتاجون إلى رمز يلتفون حوله، بعد أن وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام رئيس بهلوان تافه بلا شخصية، لا هم له ولا قدرة أو مقدرة إلا على تنفيذ الأوامر الصادرة إليه من مكتب الإرشاد.
طالبوه كثيرا أن ينزل وأن ينقذ وأن يتصدى.
ورغم أنه لم ينزل إلا فى الوقت الذى حدده وخطط له، إلا أن أحدا لم يتهمه قط بأنه خذل شعبه.
هناك من يجزم بأن المصريين عندما أطاحوا بحكم مبارك ورفعوا أحذيتهم فى وجهه، مزقوا بذلك قداسة الرئيس الأب فى قلوبهم، أنهوا أسطورة الحاكم الإله فى أذهانهم، قرروا أن يكون رئيسهم مجرد مواطن، موظف بدرجة رئيس جمهورية، لا أقل ولا أكثر.
لكن هذا كله من بين الأوهام الكبيرة التى نروجها ونعمل على تثبيتها.
فالمصريون لا يزالون أسرى لفكرة الرئيس الأب.. تراودهم فكرة الرئيس الإله عن ذواتهم السياسية، يقاومون الإغراء بعض الشىء، لكنهم فى النهاية يسجدون أمام فكرتهم الأثيرة، ولعبتهم المفضلة.. فليس سهلا أن نطوى صفحات تاريخنا الطويلة لمجرد أننا قررنا أن نفعل ذلك.. وليس هينا أن نفرط فى تراث طويل يحكم علاقتنا بمن يحكمنا لمجرد أننا هتفنا بسقوطه وطلبنا برحيله.
لقد راوغ المصريون عبد الفتاح السيسى كثيرا، ألحوا عليه لإنقاذهم من الإخوان.. أصروا على أن يكون رئيسهم، وفى يوم الانتخابات الرئاسية قرروا أن يلعبوا معه لعبتهم المكررة والمعادة (نريدك نعم لكن بشروطنا).
وبعد أن استوى البطل المنتظر على كرسى العرش، بدأت ماكينة المصريين النفسية تعمل.. بدأ المصريون فى ممارسة رياضتهم المفضلة فى تصنيع إله جديد، يرفعونه إلى درجة ألا يسأل عما يفعل وهم يسألون.. يضيفون إلى ملامحه كل صباح ملمحا جديدا، يضعون الرتوش بأيديهم، ويجهزون له الألوان التى تناسب ذوقهم.. وينحتون وجهه ليتطابق مع الصورة التى رسموها له فى أحلامهم وليالى انتظاره الطويلة.
فى خطبة عيد الفطر التى ألقاها الدكتور الأحمدى أبو النور، وزير الأوقاف، أمام الرئيس عبد الفتاح السيسى بمسجد السيدة صفية، قال إنه عندما كان يفسر كلمة الأرض فى حديث "إذا أحب الله عبدا وضع له القبول فى الأرض"، كان يقول إن المقصود من كلمة الأرض هى القرية أو المفظة أو حتى الدولة التى يعيش فيها، لكنه عندما استمع العالم كله للسيد الرئيس فى مؤتمر الأمم المتحدة وهو يجهر بحق مصر ويعبر عن مكانتها، ويصحح ما أخطأ فيه الغرب والشرق، أكبره الناس، واحترموه.
أعلن أبو النور تأسيسا على تفسيره عن اعتقاده بأن حب السيسى سرى فى الأرض، وعليه فطبقا لما يراه فلا مبالغة فى قوله "يوضع القبول للعامل المحب فى الأرض".
إشارة الدكتور أبو النور وهو بالمناسبة واحد من علماء الحديث الكبار فى مصر والعالم الإسلامى كانت ترمى إلى الحديث النبوى الشريف الذى يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل أن الله يحب فلانا فأحببه فيحبه جبريل، فينادى جبريل فى أهل السماء أن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول فى الأرض".
هل أخطأ أبو النور؟ يمكن أن تسارع باتهامه بأنه ينافق الرئيس، فقد قال ما قاله فى حضرته، ويمكن أن تزايد عليه وتقول إنه يسعى إلى رضا الحاكم الذى دعا له من فوق المنبر.. وكان يجب أن يترفع عن ذلك، فهو رجل فى نهايات العمر وعليه ألا يتورط فيما يضعه فى فراش واحد مع شيوخ السلطة.
لكن لو فسرنا ما فعله الأحمدى أبو النور بمعيار ما يفعله المصريون مع حكامهم سنجد أنه لم يخطئ على الإطلاق.
هو يعبر عما يريده الملايين من الشعب، رئيس قائد وزعيم وقادر وقوى، يلقون بالمسئولية كاملة على كتفيه، ثم يذهبون هم ليناموا قريرى العين، وعندما تضيق بهم الدنيا يسبونه ويلعنونه.. فما لا يقدره الكثيرون أن المصريين يؤلهون حكامهم، ولكن على طريقة آلهة العجوة، يصنعونها بأيديهم، يعبدونها طوال النهار، وفى المساء عندما يضربهم الجوع يأكلونها غير آسفين عليها.
لكن عندما نبتعد قليلا عن الصورة ونضع ما قاله وفعله الأحمدى أبو النور سنجد أننا أمام حالة مقلقة، يحاول أصحابها أن يصنعوا من السيسى إلها.. لا أحد يقترب منه بكلمة نقد.. ولا أحد ينظر إليه بنظرة عتاب.. ولأن الدين هو السلاح النافع والذى لا يخيب فى هذه المساحة، فقد شهره الأحمدى أبو النور فى وجوهنا، قائلا: إن الله وملائكته والمؤمنون يحبون السيسى ويرضون عنه، وكأننا عندما نسمع ذلك سنصمت ونسلم بكل ما يقال لنا.
لا أرفض إطلاقا أن يأخذ السيسى حقه تماما.. أن يضعه المصريون فى المكان الذى يستحقه، أن ينزلوه منزله الذى يليق به فى نفوسهم وسجلات تاريخهم؛ لأنه بالفعل وكما يقول البسطاء: ربنا أكرمنا وأكرم مصر بالسيسى، لكن على ألا يتحول هذا إلى تقديس.. فالحاكم الإله يورد شعبه فى النهاية موارد التهلكة.. وعندما يفيق من فعلوا ذلك بأنفسهم تكون النهاية حلت.
لا أدرى هل هذه الواقعة صحيحة أم لا ؟
لكن الإشارة إليها واجبة، كتبها أشرف السعد على صفحته الخاصة على الفيس بوك، قال إن أحد مرافقى السيسى فى زيارة الأمم المتحدة أسر له بها، فبينما كان الرئيس الفرنسى أولاند يستقبل السيسى ويبالغ فى الحفاوة به، أستأذن السيسى ودخل غرفة مجاورة وبكى بشدة ودعا الله ألا يفتنه، وألا يجعل اهتمام رؤساء العالم به يصيبه بالغرور والكبر.
لا أملك دليلا واحدا على صحة أو دقة هذه الواقعة.. لكن ما أعرفه عن المواطن عبد الفتاح السيسى يمكن أن يدعمها، فهو بسيط ومتدين ويعرف أنه عبد فقير إلى الله.. يرفض هو إذن أن يرفعه أحد فوق الناس.. ولذلك لا يجب أن نفعلها نحن.
قد تلومون الإعلام.. وستقولون أن الصحف والفضائيات هى التى تنافق السيسى وترفعه إلى منزلة فوق البشر، ويمكن أن يستخرج أحدهم كلمة من هنا أو عنوانا من هناك ويقول لى أنى أبالغ فى الكلام عنه، لن أنكر ذلك، بل سأقول لكم: كثير مما تقولونه صحيح، لكن ليس معنى ذلك أن نستسلم لهذه الحالة.. فنحن أمام رئيس عظيم، وقائد جرىء، وزعيم يريد أن ينهض ببلاده، لكنه فى البداية والنهاية بشر، واجبنا جميعا أن نسأله وأن نحاسبه وأن نقف أمامه لو أخطا.. وهو شىء لا يزعجه أو هكذا يجب أن يكون، تأخذنا العاطفة الوطنية فى الحديث عنه أحيانا، تسيطر علينا حالة ارتباك وتوجس مما يريده ويفعله الإخوان أحيانا ونحن نشير إلى ما يفعله.. لكن هذا لا يجب أن ينسينا أنه رئيس لمصر بعد ثورتين.. لمصر جديدة قرر أهلها أن يكونوا مواطنين متحضرين، يختارون من يحكمهم.. دون أن يعبدوه، لأن هذا يضره بأكثر مما يضرهم، فالشعب باقٍ، وجميع الرؤساء راحلون.