تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
Kadrymh@yahoo.com
أظن إننا في حاجة لإلقاء بعض الضوء علي الحقائق العلمية الموضوعية المتاحة فيما يتعلق بمفاهيم اكتسبت رنينا انفعاليا حماسيا قد يخفي أو يشوه جوهرها الموضوعي, و أعني تحديدا مفهوم "الانتماء" الذي اهتم المتخصصون في علم النفس الاجتماعي منذ زمن بعيد بدراسته. و لم تقف دراساتهم عند حدود الاجتهادات النظرية فحسب, بل قامت علي الدراسات الميدانية الواقعية.
يشهد مجال الدراسات النفسية منذ السبعينيات صحوة جديدة فيما يتعلق بدراسات الانتماء، سواء في بلادنا العربية، أو خارجها، و لقد شاركت شخصيا في إنجاز ما يزيد عن أربعين بحثًا ميدانيا في هدا المجال عبر تلك السنوات كباحث فردي، أو مشرف علي رسائل الماجستير والدكتوراه، أو مشرف علي فرق بحثية
و لعل أهم ما يمكن أن نخلص إليه من تتبعنا التاريخي لما تيسر لنا من بحوث ودراسات عربية و أجنبية في مجال الانتماء، هو أن تلك البحوث قديمها وحديثها تتفق نتائجها دون استثناء علي أن الانتماء إنما هو من صنع الجماعات بقدر ما هو ضرورة لتشكيل تلك الجماعات, و ليس بحال نتاجا لوراثة بيولوجية و لا نتيجة لقرار سلطوي. وتتفق تلك النتائج أيضًا في تأكيد الدور الغلاب الذي تلعبه عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية بمعناهما الواسع في تشكيل الانتماء قوة وضعفًا. وتتفق تلك النتائج كذلك علي حقيقة أن جماعات الانتماء إنما تمارس تأثيرها عبر المؤسسات الاجتماعية المختلفة من خلال آليات الاتصال بمختلف أشكالها.
و تحدد نتائج تلك الدراسات أيضا عددا من مظاهر تماسك جماعات الانتماء أهمها:
1- مساهمة الفرد بانتظام فى النشاطات الطوعية لجماعة الانتماء, إذ لا يمكن اعتبار الانتظام والمواظبة فى المشاركة في نشاط الجماعة دليلاً على التماسك فى حالة الجماعات الرسمية التى يستتبع الامتناع عن المشاركة في نشاطها التعرض للعقوبة من المجتمع عموما او من الجماعة نفسها مباشرة, وكذلك الحال أيضًا بالنسبة لكافة الخدمات القومية الإجبارية مهما كان نبل مقاصدها، ومهما كانت ضرورتها, فالاختيار الحر هو شرط اعتبار المشاركة في أنشطة الجماعة دليلا علي انتماء الأعضاء
2- جاذبية الجماعة لأعضاء جدد, وهناك عدة تحفظات لابد من الاحاطة بها قبل التسليم باعتبار انضمام أعضاء جدد دليلا على تماسك الجماعة. فأحيانا تتدخل ظروف خارجية معينة تزيد من عدد أعضاء الجماعة دون أن يكون لذلك أدنى علاقة يتماسك أفراد الجماعة الأصليين. لو تصورنا مثلا ان هناك جماعة معينة تضم المهاجرين العرب فى الولايات المتحدة مثلا أو في احد مدنها ، ثم نزحت إلى تلك المدينة مجموعة جديدة من المهاجرين العرب أيضًا فمن الطبيعي ان تعتبر المجموعة الجديدة إضافة للمجموعة الأصلية من حيث التعدادات الرسمية دون أن يعني ذلك زيادة في تماسك المجموعة الأصلية. كذلك فقد يحدث أيضًا أن توفر جماعة انتماء معينة لأعضائها ميزات مادية خاصة فيزيد ذلك من عدد الراغبين فى عضويتها دون أن يكون لذلك أيضًا ادنى علاقة بتماسك الجماعة الأصلية. كما هو الحال مثلا بالنسبة لتدافع موجات المهاجرين من الاتحاد السوفيتي السابق إلي إسرائيل. والخلاصة انه لا يمكننا اعتبار زيادة أعضاء معينة دليلا على التماسك إلا إذا تأكدنا أن ذلك لا يرجع الى تدخل ظروف خارجية ضاغطة.
3- الانصياع الطوعي لمعايير جماعة الانتماء, فقد نجد فى كثير من الاحيان ان يكون انصياع الأفراد لمعايير الجماعة مرجعة الخوف من العقاب المادى كما هو الحال بالنسبة لمخالفة قوانين الدولة المكتوبة، وبالتالى فيجب ان نفرق بين انصياع الأفراد خوفا من العقاب المادى وانصياعهم خوفا من عقاب المجموعة المعنوى - كالطرد من عضويتها مثلا - ففى الحالة الأولى لا يصير الانصياع يعبر عن تمسك الأفراد بجماعتهم فى حين انه يعبر عن ذلك فى الحالة الثانية.
4- اختيار الأصدقاء من داخل جماعة الانتماء, ولعلنا نستطيع أن نتصور نموذجًا تطبيقيا لذلك الاتجاه إذا ما تأملنا أحوال الجاليات العربية المتواجدة خارج الوطن العربي، وحجم شبكة العلاقات المتبادلة التي تربط بين أفراد الجالية وبعضهم البعض.
5- الصمود فى وجه الأزمات, فقد تتفكك وتنهار جماعة من جماعات الانتماء عند تعرضها لأول صدمة، في حين نرى جماعة أخرى لا تزيدها الصدمات إلا تماسكا, و قد يحدث العكس فى كثير من الأحيان بمعنى أن تكون الأزمة سببًا في تماسك جماعة كان يهددها التفكك. أي أن التعرض للأزمات وما يستتبعه من تهديد لأمن الأفراد قد يؤدي الى ازدياد التمسك بجماعة الانتماء وبالتالى ازدياد تماسكها. فمن الملاحظ مثلا ان جماعات الاقليات القومية تكون اكثر تماسكا وتكون أيضًا اكثر تعرضا للأزمات وصمودا فى وجهها. غير أننا ينبغي أن ننبه إلي أن استمرارية الأزمة، وتداعي آثارها، قد يؤدي مع الوقت إلي ذبول مظاهر التماسك التي نجمت كرد فعل مباشر لحدوثها.