تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
فى البدء كان الحب، وفق ادبيات الأديان التى وثقت وصححت ما تداولته البشرية قبلها وسطرته مشوشا فى اساطيرها، خلق الله الأنسان، بعد أن هيأ له الكون فى تدرج مذهل، وكان الله مصدر معرفته، يبحث الإنسان عن مصادر أخرى، وينفصل عن الله، ويحمل قضية العصيان، فيطرد من الجنة، وتبدأ ملحمة حياته على الأرض حتى يفتقده الله بالأنبياء والرسالات، وتتبلور ارهاصات الحب مجدداً، وتحتل مساحات متباينة فى تاريخ البشرية وهى تبحث عن عودة لله، فتتقرب اليه فى ثقافات الأساطير بالذبائح على اصعدة متعددة، حتى إلى الذبائح البشرية، حتى يأتى أبى الأباء والأنبياء ابراهيم الخليل، فيقود مسيرة التصحيح، ويضبط ايقاع علاقة البشر مع الله، فقد شرع فى تقديم إبنه ذبيحة وقرباناً فى لحظة فارقة تجمع الأديان عليها، إذ تشهد التأسيس لفداء الإنسان "بفدو عظيم"، تختلف الأسماء وبعض من تفاصيل لكن تبقى اساسات التصحيح متقاربة، ويبقى الإقتراب الى الله شغف الإنسان، حتى فى خارج دائرة الأديان السماوية. بتنويعات مختلفة على لحن الحب المفقود والمنشود.
تخلد الأديان الحدث تحت مسميات مختلفة، الفصح، القيامة، الأضحى، بل وتحيطه بما يليق به من اجلال وتوقير عبر صلوات وطقوس ومناسك تسمو بالمرء الى عمق الروحانية ترتفع به وتطهره ليعود إلى نقاءه كيوم ولدته أمه، تغسله من أوزاره وتجدد مثل النسر شبابه.
وفيما تدفعنا الأديان إلى النقاء واللقاء والتآخى والتحاب، نجد أننا نصر على السير عكس الإتجاه، نملأ الدنيا كلاماً عن معطيات الدين سلاماً ومحبة وعطاء وتكافلاً ورحمة، بينما تستغرقنا مجازر تستهدف الإنسان تحت غطاء يبدو دينى، وتقوض سلام الأمم وتشتعل بيننا الحروب، ونتبنى الإرهاب ونشيع الكراهية، ولا ندرك تجارب مماثلة حصدت ارواح الملايين بامتداد الجغرافيا وعلى مدى التاريخ، ونزعم أننا نتقرب بكل هذا إلى الله، ويتسرب شبابنا من بين ايدينا إلى هوة الإلحاد، وقد صدمتهم مفارقات القول والفعل، فحمّلوا الدين ثمن المفارقة ففارقوه.
وعلى مستوى العلاقات المجتمعية، نشهد مفارقات عدة ليس فقط بين اصحاب الأديان المتعددة، ولا بين اتباع المذاهب المتناحرة داخل الدين الواحد، بل بين اصحاب الدين الواحد والمذهب الواحد وربما بين رفقاء مدرسة التأويل والتفسير الواحدة، لينتهى بنا الصدع الى العائلة والأسرة، وتكتظ المحاكم بصراعاتهم، ويحتضر الحب والحميمية، وتختل منظومة وشائج وروابط صلة الرحم، وينعكس هذا على المجتمع سواء فى تدنى اداءاته أو فى حالة النفور والكراهية التى تتفشى فى المزاج العام والسلوك اليومى، وقد ينتهى بنا الأمر إلى فقدان انسانيتنا إلا من غلالة نستر بها حالنا ونتسر وراءها، ونزاوج بين التدين والفساد بعقد غير شرعى، ونعمق ازدواجية المعايير ولا ندرى أننا نكرس لخروجنا من التاريخ ونتحول الى محمية بيولوجية، نشبه البشر فى تنويعة مبتكرة لمتاحف الشمع.
ونجد انفسنا بحاجة لمن ينبهنا إلى منزلقات تتربص بنا تتطلب منا أن نعيد النظر فى واقعنا بعيداً عن التنظير والتبرير وتحميل الزمان الذى نعيشه المسئولية، نغسل ايدينا ونسكن ضميرنا، وهنا يقفز الى ذهنى ابيات كتبها الإمام الشافعى :
نعيب زمــاننا والعيب فينــــا وما لزماننا عيبٌ ســــوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيـانا
قد يكون المخرج بتوفر ارادة جماعية تسعى للخروج من نفق الازدواجية، والعمل الجاد على مراجعة اليات التنشئة وتشكيل الوعى الجمعى؛ التعليم والإعلام والثقافة والمؤسسات الدينية، وإعادة الإعتبار للإنسان لكونه إنساناً، وهى مسئولية النخب واصحاب القرار سواء فى الدولة أو فى مؤسسات هذه الآليات، حتى نتدارك ما فاتنا ونترك لأجيالنا الواعدة ما يبنون عليه لغد أفضل.
ونحن نحتفل بواحد من تجليات "الإقتراب من الله" عيد الأضحى المبارك دعونا نسترجع قيمه، البذل والتضحية ورحمة الله ونتوقف أمام قيمة الحوار البشرى الإلهى والثقة فى مراحم الله حتى فى اشد لحظات التجربة حلكة، كل عام وكل مصر بتنوعاتها بخير.