لا يريد بعض من الشباب أن يستكمل نضوج الثورة، ومازال متمسكاًـ وربما مستمرئاً ـ بمراحلها الأولى التى تتسم بالعفوية ورفض ما هو قائم، وبعضهم يشكل مراصد لتتبع من ينتقد تصرفات الشباب فيصمونه بأنه يعادى الثورة فى مكارثية جديدة وعنيفة، ولكن هذا لا يمنع من أن نوصف هذه الحالة بالمراهقة الثورية، التى شبت عن الطوق لكنها تتلذذ بالبقاء فى طور الطفولة، وتطالب بحقوق مرحلة الاكتمال، فضلاً عن وجود من يستثمر هذه الحالة سعياً لخلخلة الخروج إلى الدولة، ولحساب سقوط الوطن وعودة القوى الغاربة التى أزاحها الحراك الشعبى الواعى فى 30 يونيو، ووضع نقطة فى نهاية سطرهم فى إعلان خارطة الطريق فى 3 يوليو بإجماع القوى الوطنية، أو من يديرون الصراع السياسى بأدوات عفى عليها الزمن، ما زالت تحتل موقعها فى أدبيات الأيديولوجيين فى عصر ما بعد الحداثة.
علينا والشباب فى المقدمة أن ندرك أننا لم نستكمل بعد المسار الديمقراطى، فالديمقراطية ليست قراراً، ولا تتوافر بتوافر حسن النوايا، بل هى نتاج جهد فى تكوين العقل الجمعى الذى كبلته أنظمة سابقة بامتداد القرن، سبقتها عصور مغرقة فى التسلط قد تأخذنا إلى قرون سحيقة، حين كانت السخرة نسق حياة والاستبداد دليل قوة الحكام.
الأمر يحتاج إلى الاعتراف بتخلف ومفارقة آليات التنشئة للتنوير ولحراك العالم من حولنا، التعليم والإعلام والثقافة، وحتى المؤسسات الدينية الرسمية والموازية، وهنا يأتى دور النخب وقادة المجتمع المدنى، دون أن ننجرف إلى تقييم ما هو قائم، فنجد أنفسنا قد أقمنا مأتماً لا تنتهى بكائياته، وعلى الشباب الذى هو جل الحاضر وكل المستقبل أن ينفض عن كاهله توهمات امتلاكهم السيادة بمعزل عن بقية الأجيال التى خاضت معارك سابقة ودفعت الثمن مضاعفاً، ويدرك أن الثورة لا تتجمد عند مرحلة الرفض، بل تتطور فى خطوات تالية، بمزيد من دراسة خطوات المستقبل العملية، كيف تحول طاقة الهدم التى أزاحت أنظمة عتيقة إلى طاقة بناء تقرأ الواقع بعيون مفتوحة وعقول متفتحة وتتفهم إمكانات اللحظة وتقدم ما يفجر طاقات العمل الجاد والتنمية الحقيقية، وتلتفت للتحديات الجمة والتربصات المحيطة، والمتحفزة لابتلاع الوطن.
ولا يوجد فى العالم بأسره ـ خاصة فى الدول الديمقراطية العريقة ـ حقوق لا تقابلها التزامات، ولا حريات بلا ضفاف، فيما يعرف بالقانون، ولا تكتفى هذه الدول بوجود القانون، نصوصاً ومواد مقننة، لكنها تؤكد على سيادته، ونحن بحاجة بعد حالة الارتباك التى امتدت لما يقرب من الأربع سنوات أن نعود مجدداً الى الانضباط، وهى عودة عسرة، وقاسية، تحتاج إلى مصارحة ومكاشفة وحسم بحزم، وقديماً قيل فى الأثر "أتريد ألا تخاف السلطان افعل الصلاح"، وعندما ننتهى من إعادة الانضباط، والذى بدونه لن نتقدم خطوة، نجلس ونتناول إعادة النظر فى ما هو قائم من ضوابط يراها البعض قيوداً، فالفوضى والتحلل من الضوابط هى الباب الملكى للفوضويين ومن يسعون لتقويض البناء وسعى الخروج من النفق.
وقد كتب يوماً الكاتب والمفكر أنيس منصور فى عموده "مواقف" بالأهرام أنه ألقى سؤالاً على بعض الخبراء الدوليين فى الشئون السياسية، متى تشعر إسرائيل بالخطر من مصر؟، فجاءته الإجابة؛ عندما يلتزم المصريون بقواعد المرور، فحسبها مزحة، لكن التفسير كان أن الالتزام بقواعد المرور يعنى أن الشعب قد وعى قيمة القانون والالتزام به، وهذا ينسحب على كل مناحى حياته، فيختفى الفساد ومعه المحسوبية، ولا يعد للالتفاف على القانون واغتصاب حقوق الغيرـ الأضعف ـ مكاناً، ويكون الاختيار للوظائف والترقى بحسب الجدارة والكفاءة، وتعود الحياة لقيم العمل والإنتاج، ومن مجمل هذا تصبح مصر دولة قوية تستثمر كل الطاقات المعطلة فيها.
ومن يراجع كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ـ الأربعاء 24 سبتمبر 2014 ـ يدرك أن الرئيس ألمح إلى هذا وهو يقدم مصر الجديدة للعالم، فى قوله: "أُدرِكُ من واقع المسئولية التى أتحملها منذ انتخابى رئيساً، أن تحقيق أهدافنا يبدأ ببناء دولة مدنية ديمقراطية، فى ظل المبادئ التى سعينا إليها من خلال الاِلتزام بخارطة المستقبل، التى توافقت عليها القوى الوطنية المصرية، والتى تكتمل بإجراء الانتخابات البرلمانية، بعد أن قال الشعب المصرى كلمته، وعبر عن إرادته الحرة فى الانتخابات الرئاسية ومن قبلها الدستور، لنبنى "مصر الجديدة".. دولةٌ تحترم الحقوق والحريات وتؤدى الواجبات، تضمن العيش المشترك لمواطنيها دون إقصاء أو تمييز .. دولةٌ تحترم وتفرض سلطةَ القانون الذى يستوى أمامَهُ الكافة، وتَضْمَنُ حريةَ الرأى للجميع، وتَكْفُلُ حريةَ العقيدةِ والعبادةِ لأبنائها.. دولةٌ تسعى بإصرار لتحقيق النمو والازدهار، والانطلاق نحو مستقبل واعد يلبى طموحات شعبها.
وبعيداً عن المزايدات نجده يضع ما يمكن ان نعتبره محاور رئيسية لبناء دولة ديمقراطية، تتطلب التفافا شعبيا وشبابيا واعيا حولها، ونكون أمام سؤال هل نملك شجاعة اختبار واجتياز مرحلة الفطام السياسى، بعيداً عن الاحتراب السياسى المفتعل لاستكمال الثورة إلى الدولة، أم نجتر لحظات انقضت كان لها دورها فى لحظتها؟.
ظنى أن الشباب أمام اختبار حقيقى لنضوجه.