لقد أصبح من الصعب الإحاطة بتلك الندوات واللقاءات والكتب والمقالات التي تدور تحت عناوين من نوع "الحوار بين الأديان" أو "الحوار بين الحضارات" أو "الحوار بين الإسلام والغرب"، وفيما أري فإن الأمر يحتاج إلى تصويب منهجي يتخطى الشكل ويصل إلى المضمون، وأن الإسلام والمسيحية واليهودية والغرب والشرق، وما إلى ذلك من تعبيرات تشير إلى كيانات فكرية معنوية عقائدية تعلو على البشر ومن يتحاورون إنما هم مجموعات تنتمي إلى تلك الكيانات، ولذلك فالتعبير الصحيح هو الحوار بين مجموعات من المسلمين ومجموعات من الغربيين، ولا يقتصر ذلك التصويب على كونه نوعا من المماحكات اللفظية وذلك لعدة اعتبارات على رأسها أن تلك المجموعات التي تتحاور أو تتفاعل لا يمكن أن تدعي أنها تمثل كافة المنتمين إلى دين بعينه أو حضارة بعينها، وما دمنا نتحدث عن بشر تتباين رؤاهم لأنفسهم ولغيرهم وللعالم من حولهم، فإنه يصبح منطقيا ومشروعا تحديد الهوية الاجتماعية الفكرية للمتحاورين، فالفارق كبير بين الحوار بين المسلمين الأتراك المقيمين بألمانيا وأبناء المجتمع الألماني، أو بين المسلمين الجزائريين المقيمين في فرنسا وأبناء المجتمع الفرنسي، أو بين المسلمين الفلسطينيين ويهود إسرائيل وهكذا، ويبقي اعتبار يتعلق بخصوصية الأديان السماوية، فالكتب المقدسة أزلية أبدية ولكن التأويلات البشرية لنصوصها تتباين إلى حد تقاتل أصحاب هذه التأويلات، ومن ثم فالسؤال يظل قائما: من أولئك الذين يتحاورون أو يتفاعلون؟.
يضم عالمنا المعاصر العديد من الحضارات المتباينة، وقد شغلت قضية طبيعة العلاقات بين تلك الحضارات عقول المفكرين على اختلاف انتماءاتهم الحضارية والأيديولوجية، ومن ثم فقد تباينت رؤاهم واجتهاداتهم، ومتابعة تلك الاجتهادات تكشف عن ضرورة التفرقة بين عدد من المصطلحات التي تتردد كثيرًا في مثل هذا السياق، كمصطلحات "الحوار" ، و"التعاون"، و"التفاعل" و"التعايش".. إلى آخره.
وحين تطرح فكرة العلاقة بين أبناء الحضارتين الإسلامية الشرقية والمسيحية الغربية، ينصرف الذهن عادة إلى تلك اللقاءات أو الندوات التي نشترك فيها مع الأوروبيين لنتناقش مثلا حول الحوار بين الإسلام والغرب: أبعاده، وأهميته، وتاريخه، ووضعه الراهن إلى آخره، ولا يمتد التفكير لأبعد من ذلك عادة، بحيث يبدو الأمر كما لو أن تلك اللقاءات أو الندوات أو غيرها من الأنشطة الثقافية تعد هدفا في حد ذاته، والأمر ليس كذلك على الإطلاق، فمثل هذه اللقاءات رغم أهميتها لا تعدو أن تكون- فيما نرى- سوى وسيلة أو أداة لتحقيق هدف أبعد من ذلك.
ويرتبط مصطلح "الحوار بين الإسلام والغرب"، بمصطلحين آخرين يبدوان للوهلة الأولى كأهداف لهذا الحوار، هما مصطلح "التعاون"، وكذلك مصطلح "التعايش"، وإن كان المصطلح الأخير أكثر ورودًا إذا ما انصرف الحديث إلى العلاقة بين المسيحية باعتبارها الطابع المميز للحضارة الأوروبية، والإسلام باعتباره الطابع المميز للحضارة العربية، وإذا كان التعاون يمثل درجة أكثر تقدمًا من التعايش على مدرج العلاقات بين الإسلام وإن كانت تجمع المصطلحين صفة أساسية هي "الاختيارية"، بمعنى أنها جميعًا أنشطة يمكن الإقدام عليها، أو الإحجام عنها، وفقًا لمقتضيات الحال، وإرادات الأطراف.
ولكن ثمة مصطلح آخر نراه الأهم والأشمل في هذا المجال وهو مصطلح التفاعل بين أبناء الحضارة الإسلامية وأبناء الحضارة الغربية، لقد شهد تاريخ ذلك التفاعل فترات من المد والجذر فيما يتعلق بقضايا الحوار أو بقضايا التعاون، لأن تلك القضايا، كما أوضحنا، تشير إلى أنشطة اختيارية، أما فيما يتعلق بالتفاعل، فإنه أمر مختلف تفرضه طبيعة العالم الذي نعيش فيه.
لقد شهد التاريخ البشري وما زال يشهد تناميًا مضطردًا في تفاعل الحضارات، بحيث تقل قدرة الأطراف بالتدريج على اختيار العزلة، بحيث يصبح التفاعل بين الحضارات أمرًا محتومًا أكثر فأكثر. صحيح أن ذلك التفاعل قد يتخذ طابعًا سلبيًا يصل إلى الحرب كما حدث بالفعل في الحروب الصليبية، وحروب التحرر من الاستعمار الأوروبي التي شهدتها المنطقة العربية، وقد ينحو ذلك التفاعل إلى الإيجابية بدرجة أو بأخرى، ولكنه يظل في كل الأحوال أمرًا حتميًا لا مهرب منه، ولعل خاصية الحتمية هذه تزداد وضوحًا لو ألقينا بنظرة سريعة إلى عالم اليوم.