لا أعرف الظرف الذي كتب فيه الأديب والشاعر الراحل عبد الرحمن الشرقاوي رائعته “,”الحسين شهيدًا“,” (فبراير 1969)، وإن كانت مناخات انكسار67 ليست ببعيدة عنه، ولا ريب أن اختلالات ما بعد الهزيمة زادت الفجوة بين القول والفعل؛ لذا نجده يؤكد على قيمة الكلمة، ولعلنا ما زلنا نذكر الموجات المتتالية التي كادت تبتلع الفن والأدب وتهبط بهما إلى درك أسفل انعكس على لغة الشارع والعلاقات الاجتماعية ومفارقتها للحس المصري الأصيل، لكنني أستشعر أن مناخات لحظتنا المعاشة تكاد تكون إعادة إنتاج لما كان حينذاك، ربما أضفنا عليها ازدواجية سيل القيم في الخطاب وسيل الفساد في الحياة لذات الشخوص.. ففارق الفعل القول وغرقنا في سيل ثالث من أزمات الحياة.
دعونا نقرأ معًا ذلك الحوار الذي وضعه الشرقاوي على ألسنة شخوص مسرحيته لتحمل توصيفًا لهم وإسقاطًا على واقع معاش حينها والآن، هو حوار يدور بين الوليد وبين الإمام الحسين رضي الله عنه:
الوليد: نحن لا نطلب إلا كلمة، فلتقل بايعت واذهب بسلام إلى جموع الفقراء..
فلتقلها واذهب يا ابن رسول الله حقنًا للدماء..
فلتقلها ما أيسرها.. إن هي إلا كلمة
الحسين: كبرت كلمة..
وهل البيعة إلا كلمة؟
ما دين المرء سوى كلمة..
ما شرف الله سوى كلمة..
ابن مروان بغلظة: فقل الكلمة واذهب عنا..
الحسين: أوتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة..
دخول النار على كلمة..
وقضاء الله هو كلمة..
الكلمة -لو تعرف- حرمة زاد مزخور..
الكلمة نور..
وبعض الكلمات قبور..
وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري..
الكلمة فرقان بين نبي وبغي..
بالكلمة تنكشف الغمة..
الكلمة نور..
ودليل تتبعه الأمة..
عيسى ما كان سوى كلمة..
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين..
فساروا يهدون العالم..
الكلمة زلزلت الظالم..
الكلمة حصن الحرية..
إن الكلمة مسئولية..
ان الرجل هو كلمة..
شرف الله هو الكلمة..
ظني أن أزمة اليوم هي الاستخفاف بقيمة الكلمة وقيمة ما ترتبه من التزامات وأعباء، أو استخدامها في “,”فض المجالس“,” بحسب التعبير الشعبي، ويبقى الحال على ما هو عليه، وعندما تسأل تجد من يقول لك “,”أما هو كلام!“,”
وها نحن نشهد تطبيقًا عمليًّا لهذا النسق الذي يفارق فيه الفعل القول، وتفرغ الكلمة من قيمتها، ففي محاولة لتهدئة المشهد السياسي خرجت تطمينات رئاسية بأن هناك فرصة لضبط وثيقة الدستور لتعمق التوافق وتحقق تطلعات الأطياف والأوزان السياسية والمجتمعية المختلفة، وأن مهمة البرلمان الأولى ستكون ترجمة هذه التطمينات.
على الأرض، وفي أول اختبار لمجلس الشورى- المكتسب لمهام التشريع- تتجلى المفارقة بين القول والفعل بغير مواربة، ففي جلساته الأخيرة كان المطروح أمام نوابه مشروع قانون الانتخابات الجديد، كان المشهد مترجمًا لواقع تجلت فيه تداعيات الاستحواذ والإقصاء، فعندما طرحت فكرة التمييز الإيجابي للمرأة في مرحلة انتقالية ثار فريق من تيار الإسلام السياسي يرفض بشكل قاطع، ويرتفع الرفض إلى حد التهديد بالانسحاب عندما طالب البعض أن يمتد التمييز الإيجابي إلى الأقباط.
لم تجد أطروحات الحلول البديلة مجرد فرصة للطرح رغم وجاهتها ومنطقيتها؛ لتبقى المرأة والأقباط خلف أسوار الأسر ينتظرون الفتات الساقط من موائد القادمين الجدد، ربما كان الدرس المستفاد هو فساد الدعوة لكوتة للأقباط، فرغم كل جهود النواب الأقباط، ومعهم ثلة من النواب المعتدلين، كان القول الفصل للتصويت الذي جاء منحازًا بالطبيعة للأغلبية، ويبقى وحده ما تبقى لدينا من منظومة الديمقراطية بعيدًا عن الحياة الديمقراطية والمناخ الديمقراطي في حقيقتيهما.
ولعل المتابع للأزمة يلمس أنها تطفو على السطح حال عبور الوطن بمضيق تهتز فيه قيم الاندماج والتكامل، وعندما يكون الوهن عنوان المرحلة، وحين نقع في براثن التغول والاستئثار من فصيل أو تيار؛ ولذلك تصطف علامات التعجب ونحن نشهد إعادة إنتاج هذا اللغو، وما زالت ثورة 25 يناير قائمة ومستعرة، لم تسلم قيادها بعد لاستقرار منشود، وفي مرحلة تأكد فيها أن الأقباط قد غادروا الهامش ودخلوا إلى المتون، وفي لحظة فارقة صارت فيها المقارعة بين دولة المواطنة ودولة الإصطفاف الديني.
وقد غاب على من يتبنون سعي الكوتة أنها تأتي في مناخ لا يعرف من الديمقراطية إلا التصويت، لنقل إن الكوتة قد تم تمريرها ليس فقط بنسبة 10%، بل لنقل 20%، فكل ما تنتجه مشاغابات في المداولات والمناقشات، وقد تلهب سطور وشاشات وتقارير الإعلام ثم تصاب بالسكتة الدماغية عندما يطرح الأمر على التصويت، ويتكرر مشهد رئيس الجلسة وهو يدق على طاولته: أغلبية، ليتحول شخوص الكوتة إلى كوبري لتمرير كل القوانين سيئة السمعة والسالبة أو المقيدة لحقوقهم، الكوتة في صحيحها تأتي ضمن حزمة توزع المقاعد والأنصبة على قوى المجتمع كافة، ولا تقتصر على فئة بعينها، فيكون لدينا المقعد المسيحي ومقعد المرأة ومقعد البدو ومقعد العمال ومقعد الفلاحين ومقعد الشيعة ومقعد السيناويين ومقعد السُنّة ومقعد الأمازيج ومقعد النوبة، إلى آخر التقسيمات التي تنتظر دورها وحصتها وفق ثقلها النسبي في الشارع، أما كوتة الأقباط وحسب فيجعلها لقمة سائغة تلوكها بنهم أفواه الأغلبية.
ما حدث بالشورى يؤكد أن الكوتة فخ محكم، فسوف تدار الأمور بهذه الكيفية: تثار مناقشات، ويصرخ الأقباط، ويطرحون مطالب عادلة، وعند التصويت يكون القرار للأغلبية، وهي بالطبيعة ملك تيار الإسلام السياسي؛ لذلك نرى أن الحل في ثلاث نقاط:
الأولى في النص في قانون الانتخابات على التزام الأحزاب باحتواء قوائمهم الانتخابية على الفئات المهمشة، وعلى رأسهم الأقباط والمرأة في مواقع مناسبة ومتقدمة على قوائمهم، أو اشتراط حد أدنى لوجودهم على مجمل القوائم؛ لضمان المساواة في تشكيل البرلمان.
الثانية اشتراك الأقباط بشكل حقيقي وإيجابي في الأحزاب المدنية المتفقة مع مصالحهم ومطالبهم، والتفاعل مع الحراك الحزبي بحشد العضوية التي تدفع بهم -في الجمعيات العمومية للأحزاب- إلى مواقع متقدمة فيها.
الثالثة التنسيق بين المرشحين الأقباط، سواء في القوائم أو الفردي؛ حتى يتجنبوا تشتيت وتفتيت الأصوات المؤيدة لهم، وهو أمر لا فكاك منه على الأرض، المعركة ليست دينية، بل بين الرجعية والدولة الحديثة كما عرفها العالم المستنير.
يبقى أن نتوقف أمام كلمات السيد المسيح: «طوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع..».
وتبقى الكلمة بكل توصيفات الشرقاوي.