الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

تقسيم بريطانيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 هناك – بالقطع – فارق بين محاولة تقسيم دول منطقتنا فى إطار المخطط الأمريكى الإجرامى لإقامة الشرق الأوسط الأوسع، وبين احتمال استقلال اسكتلندا وانفصالها عن المملكة المتحدة بعد ثلاثمائة عام بالتمام والكمال من عقد معاهدة الاتحاد عام 1707، والتى ضمت اسكتلندا وويلز وأيرلندا وإنجلترا،  ذلك إذا ما قال الاسكتلنديون (نعم) فى الاستفتاء المزمع إجراؤه فى 18 سبتمبر المقبل حول بلدهم.. أما فى الشرق الأوسط فإن التقسيم يتم دون رغبة أهل المنطقة، أو بتصعيد وإثارة النزعات الطائفية والمذهبية والعرقية على نحو يدفع إلى الحرب الأهلية أو حافتها، وبما يؤدى إلى الانفصال أو الفيدرالية فى أحسن الأحوال.. الانفصال فى بريطانيا – إذا حدث – لن يتخلى عن رئاسة ملكية إنجلترا لاسكتلندا، أو الجنيه الاسترلينى، وسيوافق على جعل اسكتلندا دولة خالية من الأسلحة النووية، ولكنه سيرفض تسليم الغواصات النووية الرابضة على الساحل الغربى للإقليم، وسيبقى عضوا فى الناتو وفى الاتحاد الأوروبى.
هناك حمى حقيقية فى بريطانيا تعكسها مواقف رؤساء الأحزاب البريطانية الكبيرة (نيك كليج زعيم حزب الليبراليين الديمقراطيين وند ميليباند ودافيد كاميرون زعيم حزب المحافظين) وقد أطلقوا حملة صاخبة بعنوان (معاً أفضل) تعارض الانفصال، وقد انضم إليها جوردون براون رئيس الوزراء العمالى السابق مع أليستر دارلنج وزير الخزانة العمالى الأسبق.. إلا أن تشققات – وربما بوادر انهيار – علت سطح جدران موقف (الاتحاد) فى بريطانيا وعلى نحو كنت – على أي حال - أتوقعه منذ زمان طويل ومن قبل استفتاء نقل السلطات من برلمان وستمنستر المركزى إلى برلمان أدنبره فى اسكتلندا عام 1999، وهو ما كان تونى بلير رئيس الوزراء العمالى البريطانى وعد به فى برنامجه الانتخابى قبل صعوده إلى سدة الحكم فى أول مايو عام 1997.
ووسط الربكة المخيفة التى تتعرض لها بريطانيا، والتى ستفضى إلى استقلال اسكتلندا (إن لم يك فى هذا الاستفتاء فقطعا عبر استفتاء آخر).. يحاول زعماء الأحزاب الكبرى فى لندن (دافيد كاميرون – نيك كليج – ند ميليباند) استمالة الناخب الاسكتلندى – قبل الاستفتاء – بحزمة من الوعود الجديدة لسن قوانين بعد الاستفتاء تعطى البرلمان الاسكتلندى سلطات أكبر، وقد قال الوزير الأول زعيم الأغلبية فى البرلمان أليكس سالموند عن تلك الوعود: "بعد أن فشلوا فى تخويف الشعب الاسكتلندى من تداعيات خطوة الاستقلال على مستقبلهم واقتصادهم، هاهم – الآن – يحاولون رشوته).
كنت أشعر بأن استقلال اسكتلندا قادم، وحتى إن لم يتحقق هذه المرة فسوف يتحقق – بسرعة – فى مرة قادمة.
وأذكر ثلاث مناسبات أعطتنى ذلك الانطباع بقوة كبيرة.
أولاها رسامة اسكتلندية من الاستنساخيين ورسامى البورتريه الكبار جدا، اسمها: "چين لايتبرن داودز" كلفتها برسم لوحتى بورتريه لقرينتى ولى، وبأسلوب القرن 18 ذى الخلفية الغامقة.
وسمحت الظروف بأن التقيها لمرات فى قلعة تمتلكها باسكتلندا (على فكرة هناك قلاع صغيرة كثيرة مثل ڤيلات تمتلكها عائلات محدودة العدد)، وملحق بها اسطبل لخيول تخرج لتمشيتها وتمرينها كل صباح فى (المروج) التى تحوط القلعة.
ووسط مراقبتى لچين لايتبرن داودز وهى تعمل، كنت استمع منها – أحيانا – إلى ما أسميته مقاطع من (بكائيات اسكتلندا) إذ كانت تستدعى وتحكى قصصًا تاريخية عن بلدتها، وتحكى عن اجتياحات جيش ملك إنجلترا لها.
عكست حكايات الرسامة الاسكتلندية مرارات كبرى يشعر بها الاسكتلنديون إزاء الإنجليز، وبما يجعل الانفصال والاستقلال بمثابة حلم قومى يداعب خيال ووجدان كل اسكتلندى.
أما المناسبة الثانية فهى عرض فيلم ميل جيبسون الشهير: (قلب شجاع/ Brave- heart) الذى كان إلهاما لم أتخيل قوته لفكرة استقلال الاسكتلنديين، عبر إحياء تاريخ سير ويليام واليس الذى خاض حربا ضروسا ضد ملك إنجلترا إدوارد الأول من أجل (الحرية) لاسكتلندا، وقد كان عرض الفيلم فترة عملى فى لندن فرصة لتأمل رد الفعل الغامر، من جموع الاسكتلنديين لفكرة الاستقلال عن بريطانيا.
أما المناسبة الثالثة التى غرست يقينًا حقيقيًا فى نفسى حول أن الاستقلال قادم فكانت حوارا أجريته مع أليكس سالموند زعيم الحزب القومى الاسكتلندى، وهو ما يجعلنى أقول -الآن – إن لم يك فى استفتاء 18 سبتمبر 2014، ففى أى استفتاء مقبل، إذ بات الاستقلال حتمية تاريخية.
ذلك الحوار أتعجب له كثيرا حين أطالع سطوره – اليوم – لفرط مطابقته الواقع فى اللحظة الراهنة.
إذ كنا نتكلم – فى عام 1997 - عن استطلاعات رأى أجريت – وقتها – وجاءت نتيجتها لتظهر موافقة من أغلبية 73% من الاسكتلنديين على خيار الاستقلال.
أينعم فإن مثل تلك النسب تأثرت الآن بمقاومة عنيفة من الأحزاب البريطانية التاريخية وبحملة (معا أفضل) ولكن الخيار يظل مطروحا وبقوة.
وأذكر أننى فى حوارى مع أليكس سالموند (مشيا) على رصيف برلمان وستمنستر بجوار الحديقة الأمامية، وما بين التماثيل المنصوبة أمام الواجهة (ريتشارد قلب الأسد وألفريد كرومويل) ركزت – تماما – على فكرة الاستقلال وجدواها، والتى لم تقتصر حجج ودفوع أليكس سالموند فيها على مقولات حزبه القومى الاسكتلندى، وإنما شملت – أيضا – اقتباسات من چون ميچور زعيم المحافظين الأسبق قال فيها: "لا يجب أن يشك أى شخص فى أن اسكتلندا يمكن أن تصبح أمة منفصلة.. هذا أمر قابل للتصديق والاقتناع، فخمسة ملايين اسكتلندى يعيشون على أرض هذا الإقليم قادرون وقابلون للاعتماد على أنفسهم"!!.
وأليكس سالموند – أيضا – قال لى: "المحافظون يقولون إن التنازل عن السلطة من جانب وستمنستر لاسكتلندا سيؤدى إلى الاستقلال، والعمال يقولون إن الحالة الراهنة سوف تقود إلى الاستقلال، واستطلاعات الرأى تظهر بنسبة (2 : 1) أن الاسكتلنديين يثقون فى أن جمعية وطنية انتقالية سوف تقود إلى الاستقلال.. كل الأحزاب والأطراف – الآن – متفقة على أن الاستقلال قادم قادم، وبشكل قاطع (بغض النظر عن التوقعات) فهم – فقط – مختلفون على الأسلوب والجدول الزمنى".
أضاف سالموند – فى حواره معى قبل 17 عاما – حزمة من الأسانيد لمقدرة اسكتلندا على الاستقلال فقال حرفيا: "الحقائق الاقتصادية تقول إن الاسكتلندى ينتج أكثر من الإنجليزى بنسبة 10% ويوفر أكثر من الإنجليزى 20%، ويصدر أكثر من الإنجليزى 30%.. اسكتلندا بلد غنى لديه فائض ضخم، ولديه عدد من الموارد الطبيعية، ومن السكان المؤهلين الماهرين، ويمكن أن يكون لنا مستقبل اقتصادى أفضل بكثير مع الاستقلال.. ولو لم تك لندن تنظر إلى اسكتلندا كمجرد (معين) يساعد، لكان المحافظون خلصونا من سنوات خلت، ولكنهم يريدون الهيمنة على نفطنا وغازنا وإنتاجنا من المياه والويسكى والأسماك، فضلاً عن أراضينا الغنية، والدرس الذى يمكن استخلاصه من هذا الكلام، أنه ما دامت اسكتلندا ملكية ثمينة تقتضى كل ذلك الاستحواذ من وستمنستر، فهذا يعنى – بالقطع – أن مواردنا تكفى وقبل ذلك تستحق أن نصونها لأنفسنا ولصالحنا".
.....................
مؤكد أنكم شعرتم من خلال كلام أليكس سالموند معى أن الاستقلال هو (عقيدة) لدى القوميين الاسكتلنديين، وهذا ما يجعلنى أشعر – فيما يتعلق باستفتاء 18 سبتمبر – أن تحقيق ذلك الحلم بات قريبا، وبالقطع سيحدث إن لم يك هذه المرة، ففى مرة قادمة، لأنه ليس مطلبا سياسيا بمقدار ما هو حلم قومى تاريخى مغزول من خيوط عاطفية قديمة جدا يبدو أن الأوان جاء ليفترش ذلك الحلم أرض وسماء الواقع أو يغطيها.