تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
كانت المرة الأولى التى أستمع فيها إلى ذلك الطرح قبل منتصف تسعينيات القرن الماضى، حين وقف المرحوم الأستاذ لطفى الخولى أمام الرئيس حسنى مبارك فى أحد لقاءات الرئاسة بالمثقفين والكتاب عند افتتاح دورة جديدة من معرض القاهرة الدولى للكتاب.
قال الأستاذ لطفى – وكنا وقتها نواجه موجة ضارية من إرهاب الجماعات الدينية المتأسلمة – ينبغى علينا أن نواجه الإرهاب بسبل تتجاوز الحلول الأمنية شبه العسكرية، وان تتشكل منظومة من قطاعات التعليم والثقافة والإعلام والأوقاف والشباب، لتضع خطة المواجهة الفكرية مع الإرهاب الذى كان ظاهرة تبلورت بفعل نسق فكرى ونفسى مريض نجح فى تجنيد الشباب وحشدهم خلف أهداف سياسية لقادتهم العملاء.
ولقد استقبل مبارك ذلك الطرح بقبول حسن، وأمر بتشكيل لجنة من الوزراء الخمسة لوضع مخطط قومى لمواجهة الإرهاب، وهو ما لم يحدث كون مراكز القوى Power – Center التى تفشت فى أركان النظام، كانت تمنع أي حركة جماعية، فقد كان كل من الوزراء فى المنظومة الخماسية يتحدث عن رؤيته فى ذلك الملف، إما (وحيدا)، أو (متصورا قيادته لغيره من الوزراء)، فضلا عن أن بعض التضاغط الذى يشبه الحرب اندلع بين الوزارات المفترض قيامها بتلك المهمة لأسباب معقدة – والكثير منها شخصى – وربما كان ابرز أمثلتها موقف صفوت الشريف وزير الإعلام من فاروق حسنى وزير الثقافة.
بعد ذلك هبط جابر عصفور على تلك الفكرة بالباراشوت، مدعيها لنفسه، وطارحا إياها – مرة أخرى – على الرئيس حسنى مبارك فى اجتماع المثقفين مع الرئيس فى اكتوبر2010، والذى خرج بعده جابر عصفور ليقول: (الآن عرفت لماذا أحب حسنى مبارك)!!
وكان ذلك – بالقطع – قبل أن يدعى جابر عصفور الثورية، ويعلن استقالته من حكومة أحمد شفيق مدعيا (كذلك) أنه كان يظنها حكومة ائتلافية فوجدها غير ذلك.. وهذا كلام يمكن أن نقبله من رجل خبر الحياة السياسية أو الهيكل الادارى الحكومى للمرة الأولى، أما جابر فلا يجوز النظر إليه على ذلك النحو لأنه من قلب.. قلب النظام المصرى منذ عهد السادات وحتى لحظة وتاريخ دخوله حكومة أحمد شفيق.
ولقد كنت اقبل – دائما – سطو جابر عصفور على فكرة لطفى الخولى، لأننا نبغاها أن تتحقق واقعا يتفسر فوق الأرض بصرف النظر عن الاسم الذى تنتسب إليه.
لا بل لقد أشدت – هنا – فى هذا الموقع بتبنى جابر لتلك الفكرة باعتبارها احد (شروطه) التى قبل المنصب الوزارى على أساسها، إذ رسخ فى أذهاننا – منذ عقود طويلة – أن مراكمات الإبداع السياسى تشكل – فى النهاية – ما يسمى تراث الدولة المصرية غير منسوب لشخص أو لاسم.
قبلنا وتقبلنا – إذن – استيلاء جابر عصفور على أفكار لطفى الخولى، لا بل وأشدنا بها!
وقبلنا وتقبلنا ادعاء جابر عصفور بالثورية فيما هو أحد أركان نظام الرئيس حسنى مبارك، وكان – دائما – يقول لى إنه اتصل بالرئاسة لعرض فكرة معينة، أو يطلب منى شريط فيديو أو اسطوانة مضغوطة (سى. دى) لإحدى الحلقات التى كان يظهر بها فى برنامجى التليفزيونى (حالة حوار) ليرسلها إلى "الهانم" (هكذا كان يتحدث عن السيدة سوزان مبارك قرينة رئيس الجمهورية).
على أية حال.. إذا كنت قبلت وتقبلت وأشدت باستيلاء جابر عصفور على أفكار لطفى الخولى، وبادعائه الثورية، والارتباط بعملية يناير 2011، فإن الرجل – فيما يبدو – أغراه سكوتنا وتغليبنا للمصالح القومية على رأينا الشخصى فى بعض المسئولين.. وراح يندفع إلى تأسيس وجود ثقافى رسمى بديل وجديد، تتحكم فيه الشللية وسيادة الاتجاه السياسى والفكرى الواحد، وهو ما يستتبع – بالضرورة ومن الجانب الآخر – إقصاء وإبعاد ونفى وحصار وتجاهل وتهميش أصحاب الاتجاهات الأخرى.
اختار جابر عصفور – انتقائيا – اتجاها بعينه، قام بتمكينه من مفاصل وزارة الثقافة، وقرر أن يستقل بالوزارة لصالح مجموعة من الأصحاب والأحباب الذين اصطفاهم و"مصلحهم" خلال سنوات طويلة.. لا بل وأراد جابر أن يوسع دائرة زمرته الشخصية التى تستولى – الآن – على وزارة الثقافة، وتجعل من مؤسساتها قاعدة لحركتها، فبدأ يقترح جوائز للمبدعين العرب تحت عنوان براق لا يمكن لأحد أن يختلف عليه وهو: (عودة ريادة مصر الثقافية ودورها كنور قائد للجماعة الثقافية العربية).. ولكن حقيقة الأمر أن ما يجرى هو تكرار لما رأيناه من قبل فى ندوات ومؤتمرات ومهرجانات اشرف عليها جابر عصفور وقت رئاسته للمجلس الأعلى للثقافة، وشهدنا فيها احتفالا مبالغا فيه ببعض النكرات والمجاهيل على الساحة الثقافية العربية، ومنهم كتاب وصحفيون كتبوا عن جابر واستكتبوه، ومنهم كاتبات وشاعرات، لم يعرف أحد بهن سوى جابر الذى بذل مجهودا لافتا ومريبا فى إقناعنا بهن، وبناء على ذلك، وفى إطار تبادلية يفرضها الواجب والأصول، رأينا عددا من المؤسسات العربية تمنح جابر جوائز مالية وتكريمات هائلة، يحتاج – اليوم – إلى ردها وتجديد شباب مؤسسة المصالح والمغانم والأنفال الذاتية، التى أدارها – بجرأة مدهشة – طوال سنوات، بدون أي موانع، حتى أنه قبل جائزة القذافى، ثم حين هاج عليه المجتمع الثقافى المصرى، قام – فى حركة مسرحية – ليعيدها متشحا برداء أراده من البطولة والعنترة.
أنا لن أعيد تشكيل ضمائر وسلوكيات الناس على نحو أريده أو أفضله، ومن ثم لست منشغلا بتوجيه النصح إلى جابر عصفور وزير الثقافة الذى أحببته وصدقته وارتبطت به لفترة طويلة، ولكننى – هنا – أتحدث عما يفرض تنحيتى لكل مشاعرى الشخصية، إذ أدافع عن (شرف الدولة) و(كبرياء المؤسسة الثقافية المصرية) التى تأبى إدارتها بهذه الطريقة الشخصية المقيتة، والتى امتد تأثيرها من الثقافة إلى الإعلام، فأخضع جابر لجنة تشكيل المجلس الأعلى للإعلام إلى تفضيلاته التى تخلو – كلية – من الاعتبارات والعوامل الموضوعية.