الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

وهم الخلافة (2-4)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان سلطان مصر في هذا الزمان “,”قنصوة الغوري“,”، وكان يقوم كل عام بالواجب المصري القديم برعاية الأماكن المقدسة سواء في مكة أو المدينة أو القدس، وكان حاكم مصر يشرف بنفسه علي صناعة كسوة الكعبة وتسفيرها مع ركب المحمل، وأتي البريد إلي “,”قنصوة“,” بأن الخليفة العثماني يحشد حشوده لغزو مصر فوجه رسالة إلي السلطان “,”سليم الأول“,” جاء فيها «علمنا أنك جمعت عساكرك وأنك عزمت علي تسييرهم علينا فتعجبت نفسنا غاية التعجب لأن كلنا والحمد لله من سلاطين أهل الإسلام، وتحت حكمنا مسلمون موحدون».
فرد السلطان “,”سليم“,” في كذب سافر «يعلم الله وكفي به شهيدًا أنه لم يخطر ببالنا طمع في أحد سلاطين المسلمين أو في مملكته، أو رغبة في إلحاق الضرر به فالشرع الشريف ينهي عن ذلك».
لكن سليم الأول كان رغم ذلك مصممًا علي غزو مصر ولم يكن ينتظر سوي فتوى تبيح له ذلك فكيف يغزو بلدًا يسمي سلطانه نفسه «خادم الحرمين الشريفين» ويقوم بكسوة الكعبة ويحتضن الأزهر الشريف. وأخيرا جاءت الفتوي علي يد قاضي عسكر الأناضول “,”كمال باشا زاده“,”، واستند فيها إلي الآية الكريمة «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون». وتمضي الفتوي لتقول “,”إن (الأرض) هي مصر لأنها وردت في آية قرآنية مشيرة إلي مصر.. أما (عبادي الصالحون) فهم طبعًا العثمانيون“,”.
وقد كان، فقد سارع مفتي الأستانة هو أيضا ليؤيد فتوي قاضي العسكر، فأصدر مفتي الأنام شيخ الإسلام فتوي بوجوب غزو مصر، لأن أهلها قطاع طرق والحرب والقتال ضدهم غزو وجهاد، والمقتول من جيوش السلطان في هذه الغزوة شهيد ومجاهد. وتقترب الجيوش العثمانية من مصر فيرسل سليم الأول إلي حاكمها آنذاك “,”طومان باي“,” رسالة يقول فيها «إن الله قد أوحي إليّ بأن أملك الأرض والبلاد من الشرق إلي الغرب كما ملكها الإسكندر ذو القرنين، وأنا خليفة الله في أرضه وأنا أولي منك بخدمة الحرمين الشريفين». وبدأ “,”سليم الأول“,” جرائمه في مصر بشنق “,”طومان باي“,” علي باب زويلة، ولم يغفرها له المصريون ويظلون حتي الآن يطلقون علي هذه البوابة «بوابة المتولي» وهو أحد أسماء طومان باي ولم يزالوا يقرأون الفاتحة كلما مروا بالبوابة.
ويروي ابن إياس، في بدائع الزهور، الكثير والمخيف من جرائم العثمانيين فيقول «واتجهوا إلي الطحانين فأخذوا البغال والخيول، وأخذوا جمال السقايين، ونهبوا كل ما في شون القمح من غلال، ثم صاروا يأخذون مواشي الفلاحين ودجاجهم وأوزهم وأغنامهم وحتي أبواب بيوتهم وخشب السقوف أخذوه». وأرسل “,”سليم“,” واحدا من أكثر رجاله توحشًا هو “,”جان بردي الغزالي“,” إلي الشرقية «فوصل إلي نواحي التل والزمرونين والزنكلون، ونهب ما فيها من أبقار وأغنام وأوز ودجاج وقام بأسر الصبيان وسبي الفتيات باعتبار أنهم أبناء كفار وراح يبيعهم في المحروسة بأبخس الأثمان، وسارع المصريون بشرائهم من سوق العبيد والجواري ثم يهبونهم لأهاليهم، فاشتري أحدهم بنتًا بأربع أشرفية – جنيهات -، ووهبها لأمها، وراح الصالح بالطالح وصارت جثث المصريين مرمية من باب زويلة إلي الرميلة إلي الصليبة فوق العشرة آلاف إنسان ثم إنهم أحرقوا جامع “,”شيخو“,” فاحترق الإيوان والقبة». وترك “,”سليم الأول“,” في مصر واليًا تركيًا يقول عنه ابن إياس «كان يصبح كل صباح وهو مخمور فيحكم في الناس بالعسف والظلم وهو سكران».
ثم يلخص ابن إياس، الأيام الأولي للغزو العثماني قائلاً «وأشعلوا في مصر جمرة نار» ولعل تلك الأيام هي التي لقنت المصريين الشعار الذي ظلوا يهتفون به أمدًا طويلا «يارب يا متجلي أهلك العثماللي».
ولم تكن هذه الشراسة والغطرسة مقصورة علي تعامل العثمانيين مع شعب مصر بل شملت كل شعوب المناطق التي احتلتها، وشملت أيضا الهيئة التركية الحاكمة ذاتها، فالدولة العثمانية كانت دولة طبقية بمعني الكلمة.. فالهيئة العثمانية الحاكمة بأكملها من أصغر موظف وحتي الصدر الأعظم “,”رئيس الوزراء“,” كانت بكل أعضائها عبيدًا للسلطان ويطلق عليهم المصطلح التركي “,”قولار“,”، أي العبيد ومفردها “,”قول“,” أي العبد ويقصد به عبد السلطان، وكانت هذه هي تسميتهم جميعا في الأوراق الرسمية.
وتظل العلاقة المصرية العثمانية علاقة خصومة، وإن كان الجمهور الذي يهتف من أعماقه بهلاك العثماللي يواصل خضوعه للخليفة العثماني باعتباره خليفة المسلمين. إنه ذات التناقض الذي وجد فيه المصريون أنفسهم وهم يخوضون غمار الثورة العرابية. فمنذ البداية حاول عرابي ألا يستثير السلطان العثماني لكنه في ذات الوقت حاول أن يحافظ لمصر علي سيادتها. ويروي “,”ولفريد بلنت“,” أكد لي عرابي “,”نحن جميعا أبناء السلطان نعيش كأفراد أسرة واحدة في بيت واحد، كل منا له إقليم من الإمبراطورية، له حجرة مستقلة في المنزل، وهي حجرة خاصة بنا نتصرف فيها وفقا لإرادتنا ويجب ألا نسمح لأحد بأن يعبث بسيادتنا وعلي وضعنا المستقل“,”. ويكتب “,”صابونجي“,” إلي “,”بلنت“,” رسالة أكثر وضوحًا “,”أن العرابيين يتملقون السلطان ويعلنون ولاءهم له كخليفة للمسلمين لكن الحقيقة هي أن السلطان لا يعنيهم في شيء وحين يحسون بقوتهم سيعلنون إقامة حكومة جمهورية“,”.
وكان السلطان هو أيضا يكره عرابي ويسعي لإفشال ثورته لكنه يحاول خداعه وتملقه فقد أصبح عرابي زعيما ذا نفوذ كبير في أرجاء أقاليم عديدة. وأخيرا أرسل السلطان حملة إلي مصر لتأديب عرابي وانهالت الاعتراضات من مختلف بلدان المسلمين في الشام والهند وسيلان والسودان وغيرها.. وتصل الحملة إلي اللاذقية ويصف مراسل “,”التيمس اللندنية“,” موقف السكان منها قائلا “,”لقد حدث هيجان شديد وأعلن السوريون مقاطعتهم للحملة وامتنعوا عن التعامل معها وأظهروا الجفاء والامتهان لها ناعين عليها خروجها لحرب المسلمين“,”. وخرج عن المقاطعة أحد كبار التجار فباع الجنود العثمانيين طعامًا ولحومًا فلم ينته اليوم حتي أحرقت كل متاجره في المدينة وكان الرجل يطلب النجدة كالمجنون من الأهالي فيبصقون في وجهه ولا يتحركون لمساعدته بل يتهكمون عليه قائلين أطلب النجدة من سادتك الأتراك.
وفي الوقت الحرج تماما وصلت من الأستانة إلي الجيوش المصرية وهي تحارب الغزاة الإنجليز كميات هائلة من “,”الجوائب“,” وهي الجريدة الرسمية للخلافة المكتوبة بالعربية.. وقد تم توزيعها علي الجنود وعلي السكان في مختلف أنحاد القطر وفي صدرها كلمة “,”بيانامة“,” ثم بيان طويل جاء في مقدمته “,”بإرادة سيدنا ومولانا السلطان أمير المؤمنين خليفتنا الأعظم إشعارًا لجميع المسلمين بأن الأفعال التي أجراها عرابي وأعوانه ورفقاؤه في مصر مخالفة لإرادة الدولة العلية السلطانية، ومغايرة لصالح المسلمين.. وبناء علي ذلك تقرر أن عرابي وأعوانه عصاة بغاة وبهذه الصفة تجري معاملتهم“,”.
ولا يبقي أمام المصريين سوي أن يواصلوا شعارهم القديم “,”يارب يا متجلي إهزم العثماللي“,” وأن يضيفوا إليه شعارًا موحيًا “,”الولس هزم عرابي“,”.
لكن العلاقة المصرية بموضوع الخلافة تظل ملتبسة.. ففي مطلع القرن العشرين وعندما تأسس الحزب الوطني شهد وبعد فترة من تأسيسه صراعًا حادًا بين تيارين: الشيخ جاويش ينتمي للخلافة ويؤكد “,”أن إضاعة الخلافة إضاعة للذات“,”. ومحمد فريد يؤكد علي “,”مصرية مصر ويشكو في مذكراته من أن الشيخ جاويش كان يعترض علي أعضاء الحزب الذين يضعون علي صدرهم دبوسًا كتبت عليه عبارة مصر للمصريين“,”. ويقف إلي جانب الدعوة المصرية كثير من الكتاب ومنهم مثلا عبدالقادر أفندي حمزة، ومنصور فهمي وغيرهما.
أما قاسم أمين، فيهاجم الخلافة بشدة قائلا “,”إنها نظام يقوم علي أساس خليفة أو سلطان غير مقيد، يحكم موظفين غير مقيدين، وربما يقال إن هذا الخليفة يستمد سلطته من الشعب الذي بايعه، لكن هذه السلطة التي لا يتمتع بها الشعب إلا بضع دقائق هي سلطة لفظية أما في الحقيقة فالخليفة هو وحده صاحب الأمر والنهي.. إن من أسباب نكبتنا أننا نسند حياتنا علي التقاليد التي لم نعد نفهمها ونحافظ عليها فقط لأنها أتت من الماضي“,”.
أما الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فقد رفض من الأساس فكرة وجود خليفة يحكم باسم السماء وقال “,”إن السيادة قسمان: سيادة عليا يختص بها الله تعالي، وسيادة أقل درجة يختص بها الشعب وعليه ممارستها.. ومن هذه السيادة تكتسب الأمة شرعية دورها كمصدر للسلطة، أما الحاكم فيكتسب سلطته من الشعب“,”. ثم هو يقول جازمًا “,”ومن الضلال القول بتوحيد الإسلام للسلطتين المدنية والدينية، فهذه الفكرة خطأ محض ودخيلة علي الإسلام، ومن الخطأ القول إن السلطان هو مقرر الدين وواضع أحكامه ومنفذها“,”. ثم يعلو صوته مؤكدًا “,”ليس في الإسلام ما يسمي عند قوم بالسلطة الدينية أو المؤسسة الدينية بوجه من الوجوه، ولم يعرف المسلمون في عصر من العصور تلك السلطة الدينية“,”.
وتمضي المعركة سجالا لتأتي ثورة 1919 فتحسم الأمر لصالح الدولة المدنية ولصالح شعار جديد “,”الدين لله والوطن للجميع“,”.
وللحديث بقية..