تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
لم تكن 30 يونيو خروج شعب للتنزه في ميادين وطن، ولم تكن واحدة من مشاهد صراع سياسي في معركة تكسير عظام، بل كانت لحظة فارقة يعلن المصريون فيها استردادهم لعافيتهم الثورية، وتؤكد لفظ الجسد لعملية زرع كيان مفارق لأنسجته وجيناته.
كان الخروج الكبير مذهلاً لأجهزة الرصد بتقنياتها الحديثة، وأضاف للعلوم السياسية تأويلاً جديدًا للديمقراطية عندما أكد استرداد الشعب لحقه باعتباره مصدر السلطات، بعد أن استحوذ النظام الحاكم –السابق- على كل السلطات في غياب البرلمان قضاءً، والقضاء حصارًا، والدولاب الحكومي ومنظومة الإدارة المحلية عزلاً وتعيينًا، والقفز على الإعلام والثقافة اغتيالاً وتمكينًا.
الرسالة كانت جلية وواضحة، وجاءت استجابة الجيش المصري متسقة مع كونه جيش الشعب -منه وله- فتحرك بيقظة وترتيب ليترجم الرسالة، وينفذ قرار الغالبية الكاسحة بعزل الرئيس، ولم تستهوه شهوة الحكم في لحظة محتشدة بإغراءات البقاء، وسلم السلطة لرئيس المحكمة الدستورية بحسب ترتيبات الدستور، الذي أكد بدوره على السعي لوضع خارطة طريق كنا نطالب بها في الموجة الأولى للثورة عقب 25 يناير 2011، الدستور أولاً، فانتخابات الرئيس، فتشكيل البرلمان، وفق جدول زمني محدد لا يتجاوز العام.
كانت الرسالة رفض تجربة أخونة الدولة وتديين مؤسساتها ومرافقها، وسياساتها، ولم يكن الإخوان هم الطرف المقابل وحدهم، بل كانت المواجهة مع العديد من أطياف الإسلام السياسي التي اقتحمتنا، وكان موقف حزب النور تعبيرًا عن ذلك، فقد امتنع عن المشاركة في الحراك الشعبي، وحين قرأ تطورات المشهد اتخذ موقفًا محايدًا، ثم أعلن مباركته دون مشاركة على الأرض، وحين انتصرت إرادة الشعب حضر إعلان قرار الجيش بالانحياز للشارع، وأعلن أنه يؤيد القرار حفظًا للدم المصري.
وكانت أصابعه واضحة في الإعلان الدستوري الذي أعلن فيما بعد، والذي أكد في مادته الأولى رؤية الحزب فيما يتعلق بتوصيف الدولة، وكانت محل جدل سابقًا في مرحلة وضع الدستور -نوفمبر2012- وتسببت في انسحابات القوى المدنية من لجنة وضعه، حين أصر على إضافة المادة 219، فإذا بنصها تأتي في صدارة الإعلان الدستوري، الأمر الذي يؤكد أن رسالة 30 يونيو لم تصل بعد إلى من صاغ هذا الإعلان، وأن تخوفات تكرار ما حدث بعد 25 يناير قائمة بتطابق لا تخطئه عين، وأن موقف الفصيل السلفي لا يختلف كثيراً عن الإخوان، وأن تحركاتهم صمتاً وحياداً ثم تأييداً للحراك الشعبي تكتيكية لتصوره أنه الوريث الوحيد والشرعي للنظام المعزول، وأن اختطاف الموجة الثانية من الثورة يرتب له بحنكة وإصرار. ولا يعقل أن تتكرر نفس المقدمات دون أن تتكرر نفس النتائج.
ومن هنا يأتي الإعلان الدستوري صادمًا ومخالفًا لمنطق الأمور، فسقوط النظام يعني بالضرورة سقوط الدستور القائم، ووجوبية وضع دستور جديد يعبر عن إرادة الملايين الذين خرجوا في طول البلاد وعرضها، وليس فقط إدخال تعديلات عليه؛ حتى لا نكون كمن يضع رقعة جديدة على ثوب عتيق، سرعان ما يتهتك الثوب وتبقى الرقعة غير متوائمة معه، فكل ما حدث من هيمنة وتمكين وفاشية خلال العام المنصرم كان يستند إلى ذلك الدستور المعيب والمرفوض، والذي توارت فيه عمدًا مدنية الدولة وقيم المواطنة التي تؤسس للمساواة والعدالة لكل المواطنين، فضلاً عن ولادة الأحزاب الدينية على يديه، وهو الأمر الذى لم يتغير في الإعلان الدستوري مجددًا، ويقال إن هذا جاء لترضية المتشددين في الجناح السلفي بعد تهديدهم بالوقوف مع المطالبين بعودة النظام المعزول، فإن صح هذا فنحن نواجه انتهازية سياسية كارثية، ونلمس تراجعا عن مطالب ثورة 30 يونيو وخوفًا لا محل له، سيسلمنا إلى موجات جديدة من المصادمات، وربما تأتي على هوى من يسعون لإنهاك قوى الشباب حتى يستسلم لمخطط خلق طوق من الدول الدينية لشرعنة الكيان الصهيوني ولحسابه، في التفاف جديد على الثورة.
لذلك لا بديل عن مراجعة الإعلان الدستوري ليأتي مطابقًا لمطالب ميادين الثورة، يعلن أن مصر دولة مدنية تقوم على المواطنة، وأن الفصل بين الدين والسياسة أمر حتمي، وأن الدين -في المطلق- محل احترام ومصون ومؤسس للمجتمع، ويؤكد على خارطة طريق تبدأ بكتابة دستور توافقي يؤكد الاندماج الوطني ويحترم القيم المصرية، ثم انتخاب رئيس الجمهورية والبرلمان، والتي تتم وفق قواعد الشفافية وبإشراف دولي كامل، بالمشاركة مع آليات المجتمع المدني، في غضون عام من صدور الإعلان المعدل.
ويبقى أن الأيدي المرتعشة لا تصنع تغييرًا، وإرجاء الحسم يقودنا إلى مصاعب لا قبل لنا بها، والتحسب للصوت العالي والترويع ومحاولات حشد البسطاء وتحويل المواجهة من مربعها الوطني إلى المربع الطائفي والديني، سيفضي بنا إلى انتكاسة لا نرتضيها ولا نتحمل تداعياتها، وعلينا أن ندرك أن كل هذا ردة فعل لفصيل صدمته الهزيمة بعد أن ظن أنه وضع يده على مفاصل الوطن، غير مدرك أنه قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط غرور الاستحواذ، ولأنه يعادي الفنون فقد غاب عنه استيعاب إبداع كامل الشناوي في قصيدة “,”على باب مصر“,”، الذي شَدَت بها كوكب الشرق أم كلثوم:
أنا الشعب لا أعرف المستحيلا.. ولا أرتضي بالخلود بديلا، أنا الشعب والمعجزة.. أنا الشعب لا شيء قد أعجزه.. وكل الذي قاله أنجزه.