مازلنا مع "الآنسة مي زيادة" تلك الظاهرة الأدبية
والإنسانية التي شغلت أدباء ومفكري مصر في عصر المد التنويري، "العقاد" و"شوقي" و"الرافعي"
وإسماعيل صبري وخليل مطران وطه حسين وأحمد لطفي السيد، فيما بين مجيئها للقاهرة
1907 وحتى رحيلها عن الحياة 1941، في حياة ملحمية فريدة، في إبحار مع الكاتبة والأديبة
المصرية نوال مصطفى والتي كتبت قصتها "كما رأتها بعيون قلبها".
ونتوقف ملياً مع خيوط
نسجها القدر بينها وبين الأديب جبران خليل جبران، وحملتها سطور مكاتبات متبادلة،
عن بعد، وكلاهما يعيش في غير وطنه، وكلاهما خرج من موطن واحد، لبنان، استقرت هي في
القاهرة، بينما كان مهجرة في أمريكا، وكلاهما احترف الأدب وتملكت منه الحروف
والكلمات، يسكب فيها خلجات قلبه وأنين مشاعره وإبداع فكره وعقله، ربما لهذا كان
تواصلهما درب من الإبداع، وإن لم يقدر لهما أن يلتقيا وجهاً لوجه، وتصف الكاتبة
نوال مصطفى هذه الكاتبات في كتابها "مي زيادة .. أسطورة الحب والنبوغ"
بأنها "ثروة أدبية حقيقية من نصوص كتبها أديبان توهج قلبلهما بالحب ، واحترق
بالغربة ، وتعذب بالحرمان".
كانت المبادرة من
"مى" عندما ارسلت له خطاباً عام 1912 يحمل رأيها كقارئة وأديبة في روايته
التي انتهت من قراءتها للتو، وتعرفه بنفسها، ويبهر بنقدها وأسلوبها فيبادر بالرد
مرفقاً معه روايته الجديدة "الأجنحة المتكسرة"، فتنكب عليها وتقرأها
بإمعان، وتبعث له برأيها، اختلافاً واتفاقاً، وتتشكل بينهما خيوط تقارب يمتزج فيها
الفكر مع الوجدان، وتمتزج المشاعر النابضة في القلب بالإعجاب الصادر من العقل بحسب
تعبير الكاتبة نوال مصطفى، لكن هذا لم يمنع "مي" من الاحتراس الذي وصل في
بعض الأحيان إلى الإنقطاع عن الكتابة له،
لنحو عامين من الزمان، خشية أن تتحول الصداقة الفكرية إلى "حب معذب"، ثم لا تلبث ان تعاود
الكتابة إليه.
يأتيها رد "جبران"
معاتباً: "حضرة الأديبة الفاضلة، لقد فكرت بأمور كثيرة في تلك الشهور الخرساء
التي مرت بدون خطاب منك، لكنه لم يخطر على بالى كونك شريرة، لنعد إلى متابعة الحديث الذي بدأناه منذ عامين، كيف أنت؟،
وكيف حالك؟ هل أنت بصحة وعافية؟ (كما يقول سكان لبنان).
يدوم التواصل بينهما
حتي تقوم الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1919) فتنقطع الرسائل لنحو خمس سنوات، ثم تعود
مجدداً وتنتظم مي في إرسال مقالاتها إليه، ويرد "جبران" معلقاً ويدفعها للخروج من
دائرة البحث في المبدعين إلى البحث في اسرار
نفسها واختباراتها الخاصة، ويدفعها إلى الكتابة
الإبداعية، "إني أشعر بأن الفن ـ والفن إظهار ما يطوف ويتمايل ويتجوهر في داخل
الروح ـ هو أحرى وأخلق بمواهبك النادرة في البحث".
وفي موضع أخر يكتب
جبران لها :"ما أجمل رسائلك يا "مى" وما أشهاها، فهي مثل نهر من
الرحيق يتدفق من الأعالى ويسير مترنحاً في
وادي أحلامى، بل هي كالأوتار "
"هل تعلمين ياصديقتي بأني
كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة، هل تعلمين بأني كنت أقول
لذاتى، هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا، قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت
في قدس الأقداس"
"لقد أعادت رسائلك
لنفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف، وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها
ونسَيّرُها مركباً إثر مركب، تلك الأشباح التي ما ثار البركان في أوروبا حتى انزوت
محتجة بالسكوت، وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله".
ويتجدد الخوف عند "مي" فتنقطع
مجدداً عن مواصلة التراسل، لكنها تستشعر الوحدة فتعاود الكتابة إلى ه، وتحاول ان
تشرح ما يعتريها من مخاوف فتقول " أنت قيدتني مذنبة في دفترك، وقمت تشكو لأني
كلما حدقت في شئ أخفيه وراء القناع، وكلما مددت يداً أثقبها بمسمار، نعم فعلت ذلك
متعمدة، تعمدت قطع تلك الأسلاك الخفية التي تغزلها يد الغيب وتمدها بين فكرة
وفكرة، وروح وروح، وصرت أحرف المعاني وأمسخ الأسئلة، وأضحك عند الكلمات التي تملأ
العينين دموعاً، تعمدت ذلك خصوصاً لأوفر على نفسي عذاباً هي في غني عنه
ولأتحايد كل كلمة تقربني من ذلك الموضوع الذي ملأ روحي شوكاً وعلقماً في السنوات
الماضية، ففهمت ما أريد وإنما في غير معناه الحقيقي، وفهمته على وجه لم أقصده، ثم
سطت عليك الكبرياء، كبرياء الرجل، فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة
نحن اللذين تكاتبا أبداً كصديقين مفكرين.. أما صدق القائلون أن صداقة الرجل والمرأة
من رابع المستحيلات. آلمني سكوتك من هذا القبيل، وأرهف انتباهى، فاعلمني أنك لم
تشاركني ارتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية،
لأنك لو كنت سعيداً بها مثلى، لما رميت إلى أبعد منها. علمت انني كنت وحدي حيث كنت أظننا اثنين."
وينشغل "جبران" فلا
يرد، وينتاب القلق "مي"، فتكتب إليه طالبة الغفران والعفو عما بدر منها بحقه في رسالتها
الأخيرة، فيسارع بالرد:
"لقد ابتسمت كثيراً
منذ هذا الصباح، وها أنا أبتسم في أعماقي وابتسم بكليتي، وابتسم طويلاً وابتسم كأني
لم أخلق إلا للإبتسام ... أما العفو فلفظة هائلة أوقعتني متهيباً خجولاً، إن الروح
النبيلة التي تتواضع إلى هذا الحد لهي أقرب
إلى الملائكة من البشر"
"أنا المسئ وحدى، فقد
أسأت في سكوتي وفي قنوطي .. لذلك استعطفك أن تغفري لي ما فرط مني وأن تسامحيني"
وتتخلى مي عن تحفظها
ومخاوفها وتطلق لمشاعرها العنان فتكتب إلى جبران مع نهاية عام 1923 " ماذا أنت فاعل
هذا المساء، أين تقضي سهرتك، أطلب إلى ك أن تشاركني الليلة في كل عمل تعمله، وأن
تصحبني أنى ذهبت"
"فإذا اعتليت السطوح
لترسل النظر في العوالم التائهة في اللانهاية فخذني معك إلى قلب الله، وإذا مضيت إلى ناد أو سهرة أو إجتماع أو مسرح فخذني معك إلى قلب البشرية، وإذا بقيت مع نفسك عاكفاً على أفكارك
وخواطرك خذني معك إلى وطني ..."
وفي رسالة أخرى تكتب
"غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة
لامعة، نجمة واحدة هي الزهرة، إلهة الحب، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويشوقون؟
ربما وجد فيها من هي مثلي، لها واحد جبران، حلو بعيد بعيد، هو القريب القريب، تكتب
إلى ه الأن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، والنور يتبع الظلام،
وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة، قبل أن تري الذي تحبه، فتتسرب
إليها كل وحشة الشفق وكل وحشة الليل فتلقي بالقلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم
واحد "جبران"!!.
وتتواصل الرسائل
ويكتب جبران لها "حلت رسالتك ألف عقدة في حبل روحي، حولت الانتظار، وهو صحراء إلى
حدائق وبساتين، لذلك أسير إلى وم بجانب
خيال أجمل وأظهر لبصيرتي من حقيقة الناس كافة، أسير وفي يدي يد حريرية الملامس
لكنها قوية ذات إرادة خاصة، لينة الأصابع لكنها تستطيع رفع الأثقال وتكسير القيود.".
نقلت لكم غيض من فيض
من الرسائل المتبادلة، التي تحلق بهما ونحن معهما في أجواء الشفافية والمناجاة
وترتقي بالمشاعر فوق المحسوس، وتردنا إلى عالم
الإبداع والفن والرقي.
وقبل سنوات تُرجمت
ملحمة مي زيادة في سيناريو مسلسل أبدعه السينارست الكبير عاطف بشاي، رصد فيه
حياتها بتموجاتها المختلفة ليقدم للأجيال الجديدة نماذج ابداعية يمكن ان تضئ
طريقهم وتحفزهم لحياة أفضل وتبعث فيهم الأمل وهم يتابعون ويرصدون مسار عمالقة ذاك
الزمن، لكنه تاه في دهاليز مدينة الإنتاج، ولم يتحمس له منتجو زماننا، رغم ما
يحتشد فيه من عوامل الإبهار، وما يمكن أن يفعله في إعادة هيكلة الوجدان الجمعي، في
مواجهة موجات التجريف التي تغشانا بفعل احتلال الفن الهابط لمنافذ الفضائيات
وإنتاج السبوبة.
فهل يجد من يتحمس له
مع الصحوة الجديدة التي نعيد فيها الحياة لأمة مجيدة وننير لأجيالنا الجديدة
الطريق للفن والجمال والإبداع والرقي؟!.