التقيت في مستهل دراستي لعلم النفس بمصطلح مثير هو "العصاب التجريبي" وتعرفت من خلال دراسة ذلك الموضوع علي مجموعة من التجارب أجراها علماء النفس على فئران التجارب بهدف التعرف على مسببات اختلال الجهاز العصبي الذي تتبدى مظاهره في مجموعة مترابطة من الاضطرابات السلوكية تشمل الخوف والعزوف عن الحركة والهياج عند الاستثارة والعدوانية إلى آخره.
ما زلت أذكر ذلك الفأر المسكين الجائع الذي يتم تدريبه لكي يتعرف على الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ليجد طعامه، وأن يتجنب الطريق الآخر الذي يؤدي إلى صدمة كهربائية مؤلمة. وبعد أن يطمئن القائم بالتجربة على إتقان الفأر للتمييز بين "طريق السلامة" و"طريق الندامة"، وأنه – أي الفأر- أصبح يتجه مباشرة إلي حيث الطعام، تبدأ التجربة الحقيقية بأن يتم تبديل مواقع الثواب، والعقاب، بحيث أن الفأر إذا ما اتجه إلى الطريق الذي اعتاده للحصول على المكافأة فوجئ بالعقاب، إلى أن يكتشف بالمصادفة أن طريق الندامة قد أصبح طريق السلامة، فيأخذ في التعود عليه بصعوبة، وما أن تستقر أحواله حتى يكرر القائم بالتجربة عملية تبديل مواقع الثواب والعقاب مرة أخرى حتى يفقد الفأر توقعاته و تختلط عليه الأمور, و حينئذ نجد الفأر رغم جوعه قد انكمش في زاوية بعيدة من قفص التجربة, فاقدا شهيته, عازفا عن الحركة، يلوذ بالفرار إذا ما اقترب منه أي كائن حتى لو كان من جنسه، فإذا عجز عن الفرار اندفع مهاجما بكل عنف. وقد يظل الفأر المسكين أسيرا لذلك "العصاب التجريبي" إلى أن يفارق الحياة.
تذكرت ذلك منذ سنوات خلال قراءتي لسيرة ذاتية كتبها أحد رواد العلوم الاجتماعية أشار فيها إلي أنه بذل جهدا غير عادي لإنجاز واحد من المشروعات الموكلة إليه وتوقع أن يحتل اسمه صدر كشوف المكافآت، وإذا بتلك الكشوف تخلو من اسمه تماما، وانتابه الحزن وقرر أن يكف عن بذل أي جهد إضافي، فإذا به يتلقى مكافأة مجزية، و بدا له أن القاعدة هي ألا تعمل فتكافأ، فإذا به يكتشف الحقيقة: "لا توجد قاعدة أصلا!".
أدركت آنذاك أن ما تعلمناه في دروسنا الأولى في علم النفس لم يكن مقصورا على سلوك الفئران ولم تكن أهم تطبيقاته –كما فهمنا آنذاك- تنحصر في مجال علم النفس المرضي, بل إن هناك من الأفراد من يلعبون بوعي أو بدون وعي دور صاحبنا الذي كان يجري تجاربه على الفئران، الفارق هو أنه كان يجريها بوعي وبهدف العلم والمعرفة، وبدون أن يعنيه أمر الفئران بشكل شخصي، أما غيره فإنهم يفعلون ما يفعلون بهدف إشباع نزعة عارمة لديهم في التفرعن أو التأله، أو بهدف التدمير النفسي المقصود للآخر.
ومضت السنين لألتقي بنماذج مشابهة عديدة: آباء و أمهات يحرصون على حرمان أبنائهم من نعمة التوقع، جلادون محترفون يحرصون على تدمير مخطط مقصود لتوقعات ضحاياهم، خبراء في الحرب النفسية يضعون خططا علمية محكمة بهدف تدمير "جهاز التوقعات" لدى الخصم لدفعه لانكماش والاستسلام.
أنظمة اجتماعية كاملة تقوم على حرمان الرعايا من تكوين توقعات للمستقبل القريب أو البعيد على حد سواء، يشتركون جميعا في النفور كل النفور ممن يسألهم تبريرا لأفعالهم، أوعرضا لخططهم المستقبلية، بل قد يقدمون على أبشع أنواع العقاب لمن يجرؤ على اقتراف تلك الخطيئة، خطيئة محاولة معرفة الأسباب وما يترتب على تلك المعرفة من إمكانية التوقع.
إن القدرة علي التوقع تعد من أهم الخصائص التي تميز الكائنات الأرقي عن الكائنات الأقل رقيا. إنها جوهر عملية التعلم والتفكير وحل المشكلات؛ بل إننا لا نبالغ إذا ما قلنا إنها سر الحياة و بالتحديد سر حياة البشر. و قد يبدو الأمر للوهلة الأولي كما لو كان به قدر من المبالغة: تري ألا تؤدي بعض الاضطرابات العقلية إلي اختلال القدرة علي التوقع لدي أصحابها بدرجة خطيرة و مع ذلك يظلون أحياء؟ و الإجابة نعم بكل تأكيد, و لكنهم في تلك الحالة يصبحون "فاقدي الأهلية" و من ثم يصبحون في حاجة لمن يدير لهم حياتهم, أي في حاجة لمن يمارس التوقع نيابة عنهم. في حاجة إلي "وكبل" يتولى عنهم مسئولية اتخاذ قراراتهم اليومية, أي مسئولية إعاشتهم و حمايتهم وفقا لما يراه.
و هنا مربط الفرس كما يقولون. إن صناعة ذلك النوع من الجنون تستهدف القضاء علي أهلية الآخر الذي قد يكون ابنا أو ابنة أو زوجة أو سجينا أو أسيرا أو مرءوسا أو حتى مواطنا عاديا. صناع الجنون يستهدفون في النهاية ابتلاع الآخر. قد تكون نواياهم طيبة أو شريرة, و قد يكونون علي ببنة من نتائج أعمالهم, أو قد تكون تلك النتائج خافية عن بصيرتهم؛ غير أن ذلك لا يغير بحال من النتيجة المرعبة.
إلا أن الصورة لا تكون دائما حالكة السواد, فالبشر أفرادا و جماعات يقومون الجنون. إنها حقيقة من حقائق الطب النفسي الراسخة. قد تفشل المقاومة حينا و لكنها تنجح في أغلب الأحيان. و كثيرا ما يعتمد الطبيب النفسي إلي جانب العقاقير علي تلك الرغبة الغلابة لدي الفرد في الشفاء و التخلص من الجنون.
أما علي مستوي الجماعات فالأمر أكثر تعقيدا. لقد تطورت صناعة الجنون مع تطور المجتمع, و أصبحت صناعة ضخمة لها مؤسساتها الإعلامية و القمعية و الفكرية, و ظل الهدف ثابتا لا يتغير: إلغاء أهلية المواطنين وتحويلهم إلى رعايا لا يملكون من أمرهم شيئا ولكن من خلال إقناع الضحايا أنفسهم بذلك الهدف بحيث يصبح العزوف عن اتخاذ قراراتهم بأنفسهم قيمة إيجابية تحكم تصرفاتهم تلقائيا، ويصبح التساؤل عن الأسباب تهمة ينبغي نفيها والاعتذار عنها، ويصبح الأمر كله لأولي الأمر يتولون عن الجميع مهام الإعاشة والحماية، كما يرون وبالشكل الذي يروق لهم وبالقدر الذي يتفق مع مصالحهم.
ما زلت أذكر ذلك الفأر المسكين الجائع الذي يتم تدريبه لكي يتعرف على الطريق الذي ينبغي أن يسلكه ليجد طعامه، وأن يتجنب الطريق الآخر الذي يؤدي إلى صدمة كهربائية مؤلمة. وبعد أن يطمئن القائم بالتجربة على إتقان الفأر للتمييز بين "طريق السلامة" و"طريق الندامة"، وأنه – أي الفأر- أصبح يتجه مباشرة إلي حيث الطعام، تبدأ التجربة الحقيقية بأن يتم تبديل مواقع الثواب، والعقاب، بحيث أن الفأر إذا ما اتجه إلى الطريق الذي اعتاده للحصول على المكافأة فوجئ بالعقاب، إلى أن يكتشف بالمصادفة أن طريق الندامة قد أصبح طريق السلامة، فيأخذ في التعود عليه بصعوبة، وما أن تستقر أحواله حتى يكرر القائم بالتجربة عملية تبديل مواقع الثواب والعقاب مرة أخرى حتى يفقد الفأر توقعاته و تختلط عليه الأمور, و حينئذ نجد الفأر رغم جوعه قد انكمش في زاوية بعيدة من قفص التجربة, فاقدا شهيته, عازفا عن الحركة، يلوذ بالفرار إذا ما اقترب منه أي كائن حتى لو كان من جنسه، فإذا عجز عن الفرار اندفع مهاجما بكل عنف. وقد يظل الفأر المسكين أسيرا لذلك "العصاب التجريبي" إلى أن يفارق الحياة.
تذكرت ذلك منذ سنوات خلال قراءتي لسيرة ذاتية كتبها أحد رواد العلوم الاجتماعية أشار فيها إلي أنه بذل جهدا غير عادي لإنجاز واحد من المشروعات الموكلة إليه وتوقع أن يحتل اسمه صدر كشوف المكافآت، وإذا بتلك الكشوف تخلو من اسمه تماما، وانتابه الحزن وقرر أن يكف عن بذل أي جهد إضافي، فإذا به يتلقى مكافأة مجزية، و بدا له أن القاعدة هي ألا تعمل فتكافأ، فإذا به يكتشف الحقيقة: "لا توجد قاعدة أصلا!".
أدركت آنذاك أن ما تعلمناه في دروسنا الأولى في علم النفس لم يكن مقصورا على سلوك الفئران ولم تكن أهم تطبيقاته –كما فهمنا آنذاك- تنحصر في مجال علم النفس المرضي, بل إن هناك من الأفراد من يلعبون بوعي أو بدون وعي دور صاحبنا الذي كان يجري تجاربه على الفئران، الفارق هو أنه كان يجريها بوعي وبهدف العلم والمعرفة، وبدون أن يعنيه أمر الفئران بشكل شخصي، أما غيره فإنهم يفعلون ما يفعلون بهدف إشباع نزعة عارمة لديهم في التفرعن أو التأله، أو بهدف التدمير النفسي المقصود للآخر.
ومضت السنين لألتقي بنماذج مشابهة عديدة: آباء و أمهات يحرصون على حرمان أبنائهم من نعمة التوقع، جلادون محترفون يحرصون على تدمير مخطط مقصود لتوقعات ضحاياهم، خبراء في الحرب النفسية يضعون خططا علمية محكمة بهدف تدمير "جهاز التوقعات" لدى الخصم لدفعه لانكماش والاستسلام.
أنظمة اجتماعية كاملة تقوم على حرمان الرعايا من تكوين توقعات للمستقبل القريب أو البعيد على حد سواء، يشتركون جميعا في النفور كل النفور ممن يسألهم تبريرا لأفعالهم، أوعرضا لخططهم المستقبلية، بل قد يقدمون على أبشع أنواع العقاب لمن يجرؤ على اقتراف تلك الخطيئة، خطيئة محاولة معرفة الأسباب وما يترتب على تلك المعرفة من إمكانية التوقع.
إن القدرة علي التوقع تعد من أهم الخصائص التي تميز الكائنات الأرقي عن الكائنات الأقل رقيا. إنها جوهر عملية التعلم والتفكير وحل المشكلات؛ بل إننا لا نبالغ إذا ما قلنا إنها سر الحياة و بالتحديد سر حياة البشر. و قد يبدو الأمر للوهلة الأولي كما لو كان به قدر من المبالغة: تري ألا تؤدي بعض الاضطرابات العقلية إلي اختلال القدرة علي التوقع لدي أصحابها بدرجة خطيرة و مع ذلك يظلون أحياء؟ و الإجابة نعم بكل تأكيد, و لكنهم في تلك الحالة يصبحون "فاقدي الأهلية" و من ثم يصبحون في حاجة لمن يدير لهم حياتهم, أي في حاجة لمن يمارس التوقع نيابة عنهم. في حاجة إلي "وكبل" يتولى عنهم مسئولية اتخاذ قراراتهم اليومية, أي مسئولية إعاشتهم و حمايتهم وفقا لما يراه.
و هنا مربط الفرس كما يقولون. إن صناعة ذلك النوع من الجنون تستهدف القضاء علي أهلية الآخر الذي قد يكون ابنا أو ابنة أو زوجة أو سجينا أو أسيرا أو مرءوسا أو حتى مواطنا عاديا. صناع الجنون يستهدفون في النهاية ابتلاع الآخر. قد تكون نواياهم طيبة أو شريرة, و قد يكونون علي ببنة من نتائج أعمالهم, أو قد تكون تلك النتائج خافية عن بصيرتهم؛ غير أن ذلك لا يغير بحال من النتيجة المرعبة.
إلا أن الصورة لا تكون دائما حالكة السواد, فالبشر أفرادا و جماعات يقومون الجنون. إنها حقيقة من حقائق الطب النفسي الراسخة. قد تفشل المقاومة حينا و لكنها تنجح في أغلب الأحيان. و كثيرا ما يعتمد الطبيب النفسي إلي جانب العقاقير علي تلك الرغبة الغلابة لدي الفرد في الشفاء و التخلص من الجنون.
أما علي مستوي الجماعات فالأمر أكثر تعقيدا. لقد تطورت صناعة الجنون مع تطور المجتمع, و أصبحت صناعة ضخمة لها مؤسساتها الإعلامية و القمعية و الفكرية, و ظل الهدف ثابتا لا يتغير: إلغاء أهلية المواطنين وتحويلهم إلى رعايا لا يملكون من أمرهم شيئا ولكن من خلال إقناع الضحايا أنفسهم بذلك الهدف بحيث يصبح العزوف عن اتخاذ قراراتهم بأنفسهم قيمة إيجابية تحكم تصرفاتهم تلقائيا، ويصبح التساؤل عن الأسباب تهمة ينبغي نفيها والاعتذار عنها، ويصبح الأمر كله لأولي الأمر يتولون عن الجميع مهام الإعاشة والحماية، كما يرون وبالشكل الذي يروق لهم وبالقدر الذي يتفق مع مصالحهم.