تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تتجاذبنا في قضية المرأة فى الإطار القبطي (المصرى المسيحي) رؤيتان، تشكل إحداهما الثقافة السائدة، بفعل الأفكار التى يحتشد بها التعليم والإعلام المنتظم والموازي، وموروثات نتناقلها دون أن نتوقف أمامها كثيراً، وهى الأكثر شيوعاً، والأخرى مستقرة فى ادبيات الكنيسة وتعاليمها، وبينهما مفارقات عديدة تصل إلى حد التضاد، فبينما استقر فى الثقافة الشعبية أن المرأة كائن أقل اكتمالاً من الرجل، وينعكس هذا بالتبعية على منظومة الحقوق والواجبات، وينسحب هذا الى اختلالات فى مفهوم المساواة، نجد فى الرؤية المسيحية المؤسسة على ما علم به السيد المسيح وما احتشدت به ممارساته، ثم ما استقر فى تعليم الكنيسة الأولى منذ يوم تأسيسها بحسب رصد سفر الأعمال، أن المرأة قد استردت فى تدبير الخلاص "رتبتها الأولى"، فى تساو مع الرجل، وهو ما أكده القديس بولس الرسول فى أكثر من موقع على امتداد رسائله للكنائس ولتلاميذه "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع". (رسالة ق. بولس الى كنيسة غلاطية فصل 3)
وقد احتفظت لنا أيقونات الكنيسة الأولى بإشارات عديدة تؤكد هذا حين احتلت العذراء مريم "حواء الثانية" موقع الصدارة فى أيقونة حلول الروح القدس متقدمة على التلاميذ والرسل، وفى أيقونة البشارة بقيامة المسيح تسجل سبق المريمات فى إعلان خبر النصرة على الموت، كما سجلتها الأناجيل بجلاء.
وفى واحدة من لوحات فنان النهضة مايكل انجلو يسجل لنا تعليماً لاهوتياً عبقرياً، لحظة أن نزل المسيح إلى الجحيم ليخلص آدم وحواء ويطلق سراحهما معاً وينطلق بهما إلى الفردوس، إذ صعد إلى العلاء سبى سبيا وأعطى الناس عطايا، وأما أنه صعد فما هو إلا أنه نزل أيضا أولا إلى أقسام الأرض السفلى (رسالة ق. بولس الى كنيسة أفسس فصل 4)، ويتسق ذلك مع انشودة الفرح التى تنشدها الكنيسة على مدى خمسين يوماً بعد احتفالها بقيامة المسيح "يا كل الصفوف السمائيين، رتلوا لإلهنا بنغمات التسبيح، وابتهجوا معنا اليوم فرحين، بقيامة السيد المسيح، وهبنا النعيم الدائم وعتقنا من العبودية المرة، وسـبى الجحيم ســــبيا، وحطم أبوابه النحــــاس، وكسر متاريسه الحديد كسراً، وأبدل لنا العقوبة بالخـلاص".
وقد تقدمت المسيحية خطوات واسعة فى مفهوم الطهارة التى شغلت الناموسيين والفريسيين كثيراً فى العهد القديم، وانتقلت بها من دائرة الجسد وإفرازاته، وحررت الإنسان من النظرة الضيقة التى حتمت عليه قبلها ضمن التزاماته فى العبادة إجراءات للتطهر والاغتسال، وانطلقت به إلى آفاق طهارة الفكر والضمير وانعكاسات هذا على السلوك الحياتى، وهى فى هذا تتخلص من تراكمات الميثلوجيا (الأساطير) والفلكلور الشعبى، وتؤكد أن الله لم يخلق شيئاً نجساً، بالمخالفة لما استقر فى الذهنية الشعبية، وتسلل إلى بعض من الكنسيين، ومن ثم فعندما تكون الاستنارة هى السائدة، لا ينظر إلى المرأة نظرة دونية أو انتقائية تتبدل بحسب وضعها البيولوجى، ونحن بحاجة إلى جرأة اقتحام دائرة الموروث وتنقيته وفق المفاهيم الآبائية المستنيرة.
وهنا نتوقف ملياً أمام حاجة منظومة التعليم الكنسى إلى إعادة هيكلة، ليأتى متسقاً مع زخم الكنيسة الأولى بآليات معاصرة، فالكنيسة كائن حى ينمو ويتقدم فى النعمة والحكمة، وهى تراقب أداءاتها لتصل برسالتها إلى مستحقيها ومستهدفيها، فى التزام تام بخبرات أجيالها المتعاقبة الذى استقر فى وجدانها وعرف بـ "التقليد"، واللحظة مواتية تماماً لهذه المهمة، وعندما تنضبط منظومة التعليم سنلمس أثارها الإيجابية فى مناح شتى، تبدأ من الإلتزام الكنسى وضوابط اجتماع المؤمنين خاصة فى اجتماعهم الليتورجى الإفخارستى " اجتماعهم حول سر الذبيحة المقدسة" التى أسسها رب المجد بنفسه. ولن نكون بحاجة حينها الى توجيهات بعينها، أو إعادة تذكير المؤمنين (والمؤمنات) بها.
وتمتد آثار ضبط منظومة التعليم الكنسى إلى دائرة تماسك الأسرة، بدءاً من تكوينها ومروراً بديموتها وسلامها، وتفرعها إلى أسر جديدة، فتختفى قضايا وأزمات الأحوال الشخصية أو على الأقل تعود الى معدلاتها الطبيعية، ونرى بالضرورة عودة منظومة الرعاية الروحية الى موقعها الصحيح ليتكامل الجسد الواحد.
أزمتنا فى تناول قضايا المرأة تبدأ حين تختلط الأوراق، ونقرأ معطيات العالم الملتبسة فى سياق الرؤية المسيحية الكنسية، وحين تتراجع المفاهيم الآبائية فى ذهنية المعلمين لحساب موروثات اخترقتنا.