تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ليست البطالة وحدها هى التى تقف وراء الفوضى التى غشيت شوارع وميادين وسط البلد، واحتلال الباعة أرصفتها، بل كان توجه السلطة فى النظام الغارب أن يتم إزاحة القانون جانباً واستحضار العرف وأنساق وضع اليد وفرض الأمر الواقع بفعل السطوة سعياً لخلخلة سلطة الدولة بمفهومها الحديث لحساب المفهوم العشائرى، محكوماً بصورة ذهنية سيطرت على ذاك النظام ترتد بنا إلى دولة الملل والنحل والطوائف، ظنا منه أنه يقترب بهذا من حلم الخلافة بعد أن تتحول الدولة الى قبيلة أو فى أحسن الأحوال إلى إمارة.
وتحت وطأة اللحظة راح المتنفذون يبحثون عن علاجات سريعة، ويتفقدون الأحياء بحثاً عن أماكن وساحات ينزح إليها المحتلون الجدد بشروطهم، خوفا من أن ينفجر الشارع فى موجات احتجاجية عشوائية، يستغلها المتربصون بالثورة لحسابهم، وما زال البحث جارياً والاسترضاء يقدم تنازلات متتالية، وما زلنا نرقب المشهد ونخشى أن ينتج نسقاً يتكرر وطابور العاطلين يتمدد، وندور فى دوائر لا تنتهى، تحول الاستثناء إلى قاعدة.
وقد طالت الفوضى وسياسة فرض الأمر الواقع ميدان رمسيس بوسط العاصمة، والذى فقد توازنه مع قرار إزالة تمثال رمسيس ونقله إلى حيث اعتقل فى صحراء الواحات على تخوم الجيزة، كانت الأسباب المعلنة وقتها، حمايته من آثار التلوث البيئى والخوف عليه من الانهيار، بينما كانت الكراهية والعداء لتاريخنا تقف وراء القرار.
كان رمسيس الملك والتاريخ والرمز، يقف وسط الميدان فى شموخ تندفع من تحت أقدامه المياه بقوة فى عمل فنى موحى بالقوة والعظمة، يبعث لأحفاده رسائل جمة تشدد من عزيمتهم، وقدرتهم على قهر من يستهدفهم ويستهدف أمنهم ووحدتهم ووجودهم، ويذكرهم بماضيهم التليد، وموروثهم الحضارى، فكان قرار الترحيل متسقاً مع ذهنية هكسوس العصر وقد اخترقوا مواقع عديدة فى الدولاب الحكومى ترسم القرار وتدفع فى اتجاهه، حتى قبل أن يقفزوا إلى السلطة، ويختطفوا الثورة، وما زلنا نعانى من آثارهم حتى بعد أن أزاحتهم ثورة 30 يونيو واستردت للوطن ثورته.
كان الميدان رمزاً للفن والجمال وكنا نقصده فى ليالى الصيف فى شبابنا المبكر نستنشق نسائم وعبق التاريخ، ونحلم بمستقبل مفتوح مع صوت عبد الناصر وإبداعات صلاح جاهين وعبد الحليم وكمال الطويل، قبل أن تخنقنا ارتدادات سنوات انفتاح السداح مداح، وقبل أن تتسلل إلى شوارعنا العشوائية، وقبل أن يجد الفساد مستقراً وقبولاً وتعايشاً مع يومنا وتفاصيل حياتنا.
لكن ما وصل إليه حال محطة مصر المطلة على ميدان رمسيس، الذى غاب عنه صاحبه بعد نفيه، يبعث على الأسى بل والحزن، فلم تكتف الفوضى بحصار المحطة والميدان بالباعة المستقرين فيهما، بل سدت كل المنافذ المؤدية للميدان والخارجة من المحطة، بطوابير متراصة من "الميكروباصات"، تتحدى النظام والأمن وقواعد المرور، وهي على مرمى حجر من قسم الأزبكية الذى اكتفى بتحويل أسواره إلى حصون واحتل نصف الشارع كحرم أمنى تحسباً لترويعات الارهابيين، وقد نستوعب هذا شريطة أن نلمس قيامه بأبجديات دوره ومهامه ووظيفته.
اكتفت هيئة السكك الحديدية بإعادة تجديد مداخل وواجهة المحطة، ولم تحرك ساكناً مع الأجهزة المعنية تجاه الاعتداء على مداخلها ومخارجها، والتى تحولت إلى مواقع لقضاء الحاجة، لدرجة تزكم الانوف، ولم تلتفت الى معاناة القادمين اليها او الخارجين منها جراء ذلك، واكتفت المحافظة بمحاولات متقطعة فى حملات للهيمنة على الميدان والمحطة، لكنهما يعودان الى سيرتهما الأولى بعد انتهاء الحملات، ويغيب عن المشهد العمل المخطط والفعل المتكامل بين الأجهزة ذات الصلة والديمومة والحلول الحقيقية، الفاعلة، ادرك عن قرب وفى متابعة مستمرة الجهد المضنى الذى يبذله الدكتور جلال مصطفى السعيد محافظ القاهرة، ورؤيته ودأبه فى ملاحقة اختلالات الواقع، لكن أين مسئولى الأحياء والإدارات المباشرة؟، وأين دور الجهات الأمنية خاصة ادارات المرور والشرطة؟، هل صارت يد منظومة الميكروباصات هى العليا؟، هل لم تعد المساءلة واحدة من فعاليات وقواعد الإدارة؟، هل صار الحزم والحسم كلمات خارج الخدمة؟.
عزيزى محافظ القاهرة محطة مصر تتوجع، وأنت تملك من الحس الوطنى والرؤية والسلطة ما يدعم إنقاذها.