تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
حاورني عبر بريدي الإلكتروني صديق كريم، اختار له كنية لا تفصح عن اسمه الحقيقي، وهي ظاهرة أصبحت شائعة في مجال الاتصالات الإلكترونية الحديثة، معلنًا أنه ينتمي لتيار سلفي، وقد بدا لي متسمًا بقدر طيب من سعة الصدر.
كان محور الحديث ما سبق أن تناولته في هذا الموقع عن المقارنة بين التخصصات العلمية والتخصصات الدينية. وبدأ صديقي حواره بتساؤل بدا منطقيًّا مفحمًا: “,”أليس الله سبحانه وتعالى هو خالقنا؟ أليس الخالق أدرى بقواعد الأداء الأمثل لما صنعه؟ أليس هو الأعلم بكيفية إصلاح ما يطرأ عليه من عوج؟ لماذا إذن الضيق بالفتاوى؟ أليست نوعًا من محاولة التبصير بالعلاج الإلهي لما ينتاب الإنسان من ضلال؟ الفتوى أشبه بروشتة العلاج، أو الوصفة الطبية، التي يكتبها طبيب متخصص، ألا تذهب إلى طبيب متخصص إذا ما شكوت علة أو مرضا؟“,”.
وأبديت لصديقي أنني لست ضد أن يلجأ مواطن لطلب فتوى أو رأي أو نصيحة أو استشارة يحتاجها ممن يراه أهلاً لتقديمها، وحديثي ينصرف إلى الفتوى الملزمة لجمهور الأمة؛ وهو ما لا نظير له فيما يتعلق بروشتات أو حتى نصائح الأطباء، حيث لا تُلزِم أحدًا، مهما كان مريضًا، ومهما كان صواب تلك النصيحة أو الوصفة. إنها تلزم فحسب من يقبل الالتزام بها، وله أيضًا أن يتراجع عن التزامه وقتما يشاء، متوقفًا عن العلاج، موليًا ظهره للمستشفى، رافضًا تناول العلاج أو إجراء الجراحة. ولا يملك الطبيب، ولا حتى نقابة الأطباء، أن تعاقب مريضًا لأنه رفض العلاج.
تململ صديقي محتجًّا قائلاً: وماذا عن الطب الوقائي، حيث يصل الأمر إلى اتخاذ السلطات الحكومية من الإجراءات ما يلزم المواطنين بالتطعيم، أو حتى بإيداعهم في أماكن محددة لا يبرحونها؛ حرصًا على عدم انتشار الأوبئة؟ ومضى صديقي خطوة أبعد متسائلاً: وماذا عن الأطفال ومرضى العقول؟ ألا نعالجهم رغم إرادتهم وبحكم القانون؟
وبدت لي حجج صديقي جديرة بالتأمل والتفنيد. نحن بالفعل نقبل بإجبار أطفالنا على تلقي العلاج الذي نراه نحن مناسبًا طالما أنهم لم يتجاوزوا سن الطفولة؛ باعتبارهم لم يصلوا بعد إلى مستوى عقلي يمكنهم من تحمل مسئولياتهم عن أنفسهم، وفيما يتعلق بالمرضى النفسيين؛ فالأمر يتوقف على ما يمثلونه من خطورة مادية على الآخرين، أما إذا ما ظلت أفكارهم وضلالاتهم وهذاءاتهم وتخييلاتهم حبيسة ذواتهم؛ فأمر علاجهم موكول لهم، وفقًا لقوانين الطب النفسي الحديثة. والأمر بالمثل فيما يتعلق بقوانين الحجر الصحي والتطعيم، التي تطبق جبرًا على المواطنين، بل ويعاقبون إذا ما خالفوا القوانين المتعلقة بذلك.
وبدا على صديقي الارتياح؛ ولكني سرعان ما نبهته إلى أننا خلال حديثنا عن المشابهة بين الفتوى والعلاج الطبي قد أغفلنا أمرًا مهمًّا، هو التفرقة بين علل الأبدان، وهي ما يهتم به الطب بفروعه المختلفة، وعلل الأفكار، وهي ما تخرج تمامًا عن حدود الطب.
الطبيب لا علاقة له البتة بما يعتنقه المريض من أفكار، فضلاً عن أنه لا ينبغي أن يطلب من المريض الإفصاح عن تلك الأفكار، فضلاً عن محاولته التدخل لتغييرها جبرًا؛ اللهم إلا في حالة استثنائية واحدة لا تعرفها سوى النظم الفاشية الاستبدادية الموغلة في تطرفها، وتطلق عليها “,”آليات غسيل المخ“,”، وهي تعني الاستعانة بمكتشفات الطب البدني والنفسي في إجبار الفرد على تغيير أفكاره.
وانقطع حبل الحوار مع صديقي الذي لا أعرفه.. لعل الملل قد أصابه؟ لعله انشغل بما هو أهم؟ لعله ذهب ليراجع أفكاره؟ على أي الأحوال فقد آثرت أن أشارك القراء هذا الحوار؛ لعل في ذلك شيئًا من فائدة.