تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
كان موضوع "أنماط القادة و أساليب القيادة" ضمن الدروس الأولى التي تلقيناها عن أساتذتنا في علم النفس الاجتماعي، و كان على رأس أنماط القادة الذين درسناهم "القائد الملهم" الذي لا يعتمد في اتخاذه قراراته إلا على بصيرته الثاقبة وذكائه الفذ ومعرفته الشاملة. وارتبط ذلك النمط تاريخيا بأسلوب القيادة الدكتاتورية.
وتغير العالم وتشابكت مشاكله ولم يعد في مقدور قائد كائنا ما كانت عبقريته أن يزعم أنه قد أحاط بكل شيء علما، بل إن العبقرية الفردية لم تعد العلامة المميزة لمن يحصلون علي جوائز نوبل في الفيزياء مثلا، ويكفي المقارنة بين فريق الباحثين الذين أشاد زويل بمساهمتهم في تحقيق إنجازه العلمي، وأينشتاين الذي حصل على نفس الجائزة نتيجة جهد فردي، وإن كان البعض قد أصبحوا يشككون في مدى فردية هذا الجهد.
لقد انتهي عصر ذلك العبقري الذي يفكر وحيدا وينجز منفردا ليحظى وحده بالمجد كله، وأصبح قادة العالم يتفاخرون ولو على سبيل الادعاء باعتمادهم على فرق تضم العديد من "المستشارين" في كافة مناحي المعرفة التي يتطلبها ترشيد قراراتهم، لقد اختفت عبارة قصص ألف ليلة "دبرني يا وزير" ليحل محلها "على أهل الاختصاص تزويدي بالبدائل".
أذكر أن أول دروس تلقيتها في علم النفس العام كانت على يد العالم الجليل أستاذنا الراحل يوسف مراد، في بداية إحدى محاضرته رفعت يدي لأسأله عن أمر يتصل بمحاضرته السابقة، فصمت قليلا ثم طلب مني إعادة السؤال، وأمسك بقلمه و سجل السؤال في ورقة أمامه ثم سألني عن اسمي وكتبه قرين السؤال وقال لي سوف أرد على سؤالك في المحاضرة القادمة، و بدأ محاضرته، بدا لي الأمر غريبا، لقد ألفت خلال دراستي في المرحلة الثانوية أن أجد الإجابة الفورية عند المدرس، فما بال هذا الأستاذ يطلب مهلة للإجابة علي سؤال عارض لتلميذ ما زال يحبو علي طريق علم النفس، واستهل الدكتور مراد محاضرته التالية بأن ناداني فوقفت لأسمع منه الإجابة على سؤالي البسيط بعد إشارة منه إلى المصدر الذي رجع إليه، وتعلمت أن رجل العلم الحق هو من يسلم بأنه لا يعرف كل شيء، ولا يجد غضاضة في قولة "لا أعرف".
ولم ألبث أن التقيت في قاعة المحاضرة أيضا بأول من تلقيت عليه دروس الأنثروبولوجيا لتصدمني عبارة له مؤداها أن رجل العلم الحق هو ذلك الذي يوقن أن ما يجهله أكثر مما يعرفه، وأن ذلك المجهول قابل للمعرفة العلمية، وكان أستاذنا الدكتور علي عيسى يلخص الأمر في عبارة موجزة: "كلما ازداد المرء علما ازداد جهلا، وازداد يقينا بضرورة وإمكانية المعرفة".
ورسخ لدي الدرس حين قرأت في أسس المنهج العلمي، وتاريخ تطور العلوم، لأكتشف أن أولى قواعد العلم هي التعرف على مناطق الجهل و"أن المرء يظل عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علمه اكتمل فقد جهل". وأن أولى خطوات البحث العلمي الصحيح هي بلورة سؤال لا نعرف الإجابة عليه.
وأنظر إلى عالم اليوم من حولنا فتزداد الصورة وضوحا، حيث انحسرت صورة الحاكم الفقيه الفيلسوف الحكيم الأديب ولم يعد لها وجود عند من هم أكثر حضارة وتقدما، وبقيت تلك الصورة البالية تتمسك بالحياة حيث الجهل والتخلف، الحاكم العصري هو ذلك المحاط بالعديد من المستشارين الذين تتعدد تخصصاتهم، و كذلك الحال في مجال المشتغلين بالعلم, فلم نعد نر في العالم المتقدم من يجرؤ على الزعم بأنه يعرف كل شيء حتى في مجال علمه المتخصص أو الذي يبدو له متخصصا، لقد اختفت أو كادت صورة العالم أو المكتشف العبقري الملهم الذي ينجز اكتشافه العلمي من ألفه إلى يائه منفردا دون اعتماد على أحد.
لقد أصبحنا نشهد في عالم اليوم ما يمكن أن نطلق عليه وبحق "مؤسسات صناعة الأفكار"، وهي صناعة بكل معنى الكلمة، صناعة لها مؤسساتها وينحصر مجال عملها الأساسي و الوحيد في إنتاج الأفكار و صياغة البدائل. قد تتعدد مسميات تلك المؤسسات بين مراكز البحوث الاستراتيجية, أو بنوك التفكير, أو مراكز دراسات الرأي العام، أو مراكز البحوث المستقبلية، ولكنها تبقى في النهاية من أبرز الأشكال المعاصرة للصناعات الأساسية الثقيلة: صناعة الأفكار، وأصبحت تلك المؤسسات تتجاوز الآلاف في عالم اليوم.
وتكاد تلك الصناعة أن تحتل ذيل قائمة الاهتمامات في بلادنا، سواء من حيث ندرة مؤسساتها, أو من حيث انكماش سوقها بمعني قلة الطلب عليها، حيث ما زلنا فيما يبدو أسرى مقولة أن التفكير عملية تلقائية ذاتية، وأن النمط الأمثل للقيادة هو ذلك القائد العبقري الذي لا يحتاج للاعتماد على مثل تلك الصناعة، صناعة التفكير.
ولذلك ينبغي أن ينتابنا الفزع حين نرصد في بلادنا تنامي الميل إلي الفتوى دون تخصص أو حتى علم بالموضوع المطروح، حتى أصبح المرء يأنف من التصريح بأنه ليس من أهل الاختصاص في موضوع معين، وصرنا ننبهر انبهارا لا حد له إذا ما أقدم متخصص في الجيولوجيا مثلا علي الفتوى في شأن ديني، أو متخصص في العلوم الدينية علي الخوض في قوانين علم الفيزياء, بل و وصل الأمر ببعضنا إلي حد الدهشة و الاستغراب إذا ما توجهوا بسؤال إلي من يحسبونه متخصصا فيعتذر لهم بأنه عير ملم بمستحدثات الموضوع أو انه في حاجة لفسحة من الوقت لإعداد إجابته، فيعتبرون إجابته نوعا من التملص من إبداء وجهة نظره في الموضوع.
ويظل التساؤل قائما: ترى هل يمكن أن تشهد بلادنا طلبا حقيقيا على منتجات هذا النوع من التفكير الجماعي العلمي؟ و هل آن الأوان لمراكز البحث العلمي في بلادنا أن تنطلق في هذا الاتجاه؟