تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
(حاكم مطلق الصلاحيات يحكم بمراسيم خاصة).
يخيل إليك حين تقرأ مثل ذلك الوصف، أن الحديث يدور حول زعيم دولة متخلفة ترسف فى أغلال الفساد والاستبداد، ويتفنن رئيسها فى إسباغ الإلوهية والقداسة، والصفات الاستثنائية على نفسه بنحو يحجب قدرة المجتمع أو الدولة على مراجعته، ويقلل من فرص مراكز التأثير والمصالح ذات الأوزان النسبية فى تشكيل أى قرار بالرأى.
ولكن أن يكون ذلك الوصف متعلقا برئيس دولة ديمقراطية متقدمة، فذلك أمر يوجب الاستغراب، الذى ينفجر بالدهشة إذا كانت تلك الدولة هى الولايات المتحدة الأمريكية، والتى يدور جزء معتبر من رطانها السياسى عن الليبرالية والديمقراطية، وهو ما تذيعه وتشيعه فى العالم كله على نحو تبشيرى ورسالى فيه قدر كبير جدا من الإيحاء بالطهارة السياسية إذا جاز التعبير.. ولكن باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة رقم 44 (ديمقراطى) بات على حافة أو عتبة محاسبة قانونية عن تلاعبه بالدستور، وتصرفه كحاكم مطلق الصلاحيات، يحكم بمراسيم خاصة، وذلك بعد أن وافق مجلس النواب (بأغلبية 225 نائبا مقابل 201) على ملاحقة الرئيس الامريكى قضائيا بتهمة تجاوز حدود السلطة.. ولقد عرفنا – تاريخيا – بعضا من الرؤساء الأمريكيين تعرضوا للمطالبة بعزلهم، أو الإجبار على الاستقالة، منهم ريتشارد نيكسون الرئيس رقم 37 (جمهورى) الذى أجبر على الاستقالة بسبب تورطه فيما يُعرف بفضيحة التجسس على مقر الحزب الديمقراطى المنافس فى بناية ووترجيت المطلة على نهر الباتوماك بالعاصمة الأمريكية.
أما الرئيس بيل كلينتون رقم 42 وهو (ديمقراطى)، فقد تم توبيخه والمطالبة بعزله بعد فضيحة علاقته بالمتدربة فى البيت الأبيض مونيكا لوينسكى.. فما هى التهمة التى سيلاحق أوباما – على أساسها – قانونيا؟!
اعتمد أوباما قانونا فى 2012 يقنن أوضاع مقيمين فى البلاد بطريقة غير شرعية، وكذلك لم يلتزم (مرتين) بالمهلة الممنوحة لإنجاز قانون النظام الصحى (أوباما كير)، وكذلك ارتكب خطيئة مبادلة أسير امريكى بأعضاء قياديين معتقلين من حركة طالبان دون إبلاغ الكونجرس.
هذه التهم هى التى ساقتها سارة بيلين النائبة الجمهورية المحافظة (من مجموعة حزب الشاى المتشددة فى يمينيتها) وهى تطالب بحساب أوباما عنها، ولكنها ليست أهم ما يمكن توجيه الاتهامات إلى أوباما بشأنه للتدليل على تلاعبه بالدستور والحكم بمراسيم خاصة، وإهانة المؤسسة التشريعية.
إذ أن ما شاع عن تقديم الرئيس الامريكى لعدة مليارات من الدولارات لجماعة الإخوان الإرهابية، فى مقابل اتفاق كتابى وقعه محمد مرسى (أول جاسوس مدنى منتخب) يقضى بتنازله عن قطعة أرض من شمال سيناء للفلسطينيين ليقيموا فيها غزة الكبرى، ويتنازلوا عن حكاية دولة فلسطينية فى الضفة وغزة معا.
ثم إن الطريقة التى أدار بها أوباما السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط عبر مساندة وتعضيد قوى التأسلم السياسى، أضرت – مباشرة – بالمصالح الأمريكية، وبخاصة فى مصر وعلى نحو مروع، ومن ثم فهو يستحق المحاكمة عن ذلك بأكثر منه عن كل التهم السابقة، وقد تخطى فيها أوباما المؤسسات السياسية والتشريعية وتصرف وحيدا كما لو كان الحاكم بأمر هواه.
ولكن الجمهوريين وحتى المتشددين مثل سارة بيلين لم يثيروا تلك التهم فى مطالباتهم بمحاكمة أوباما وعزله، لأنهم – بكل.. كل بساطة – لم يكونوا جادين.
الموضوع هو أن الحزب الجمهورى أراد من إثارة تلك القضية أن يزيد من جمع تبرعات أنصاره عبر "الانترنت"، ولكن ما جرى هو أن مؤيدى كل حزب راحوا يجمعون التبرعات بسرعة، لأن الاستقطاب الذى توحى به معركة العزل دفع أنصار كل من الحزبين (الديمقراطى والجمهورى) إلى جمع التبرعات ومحاولة تحقيق الانتصار على المنافس فى الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2016، والمضحك أن ما جمعه الحزب الديمقراطى (وسط تلك الأزمة) فاق ما جمعه الحزب الجمهورى الذى أثار تلك القضية أساسا.
تبقى الحقيقة – إذن – فى ذلك الملف أن قضية الديمقراطية زائفة عند حاكم امريكى يتلاعب بالدستور ويفرض ما يشاء من قوانين ومراسيم خاصة، كما أن قضية الديمقراطية زائفة – مرة ثانية – عند المعارضة التى تطالب بمحاكمته دون أن تذهب إلى إثارة الاتهامات الحقيقية ضد ذلك الرئيس، فضلا عن أن هدفها من الزوبعة السياسة الخاصة بالعزل Impeachment هو – بالدرجة الأولى – حزبى/ انتخابى، وليس مبدئيا يتعلق بنصرة الديمقراطية ضد الاستبداد.
إنها حقا دولة زائفة.. زائفة.. زائفة.