تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تلقيت دعوة للمشاركة في أمسية يعقدها مجلس كنائس مصر تحت عنوان "معاً ضد العنف" بعد نحو أسبوع، وظني أنها خطوة جادة في التعامل مع الظاهرة التي اقتحمتنا على أصعدة مختلفة اجتماعية واقتصادية ودينية، وفي دوائر متعددة، الأسرة والشارع، والعديد من التجمعات، المدرسة والنادى والمواصلات العامة، والقرية والمدينة، وتتدرج من العنف اللفظى إلى الإيذاء البدنى وتتصاعد فى نتائجها من الفرز المجتمعي إلى التهجير القسرى وتصل إلى ذروتها بالاستهداف الدموي والقتل.
وتأتي أهمية المبادرة من كون البعد الديني يمثل أحد أهم محاور تشكيل الذهنية العامة إن لم يكن أهمها على الإطلاق فى مجتمع يرى أنه متدين، مع تصاعد وتقدم الرؤى الدينية الشعبوية الى صدارة أسباب العنف في مناقضة صارخة للمفاهيم الدينية بحسب رؤية الوسطيين والمعتدلين من المتدينين.
وهي ظاهرة تاريخية ارتبطت بصعود التيارات الدينية المتشددة وتحالفها مع السلطة الدنيوية الحاكمة، في مراحل التراجع الفكري والثقافي المظلمة، وما زال مثال الخبرة الأوروبية في العصور الوسطى ماثلاً في الأذهان، والذي أنتج أنماط الدولة الدينية الثيوقراطية، الحكم باسم الله، والذي أعيد إنتاجها في عصور الشرق الوسيطة تحت لافتة "الحكم بشرع الله"، وهو الأمر الذي يجد قبولاً لدى كثيرين خاصة في المجتمعات التي تعاني من تراجعات اقتصادية، والتي لم تنل حظها من التعليم التنويري، والتي عانت من إحباطات سياسية نتيجة فشل أنظمتها في إدارة أزماتها، أو الخروج بها إلى دوائر التنمية وصولاً إلى مجتمع الرفاة المنشود، فكان أن أغرقت شعوبها في الفكر الغيبي الأخروي على غير صحيحة، فأمدتها بمبررات قبول المعاناة والإنكسار والإيمان بأن السعادة والحياة الكريمة ومن ثم الحقوق مؤجلة الى ما بعد الموت، مدعومة بآليات إعلام يخاطب شعوبها بما يدعم استثارة الحس الدينى كما تراه ـ وكما تريده ـ هذه الأنظمة.
وتتحصن هذه الأنظمة فى مواجهة دعوات اعادة انتاج التنوير الذى خرج باوروبا من نفق الإظلام وكرس طريق التحرر الإنساني وتبنى اليات الإبداع والإنتاج والعمل على أرضية المساواة والعدالة والمشاركة فى ادارة الوطن فيما عرف بالديمقراطية، وتلازم السلطة بالمسئولية، والحقوق بالواجبات، تتحصن هذه الأنظمة ومشايعيها ومنظريها بترويج مفهوم "الخصوصية" على غير حقيقته، وظنى أن هذا النسق من التحصن سينهار أمام طوفان سيولة المعلومات فى عصر ثورة الإتصالات والسموات المفتوحة.
وعندما ينغلق المرء على ذاته، يرى فى الآخر عدواً يهدد ايمانه، ويصبح ملزماً أمام نفسه وبفعل الرؤى المتطرفة باستهداف المختلف عنه حتى وأن كان غير مختلف معه، ويشتركان معاً فى نفس المعاناة ويرزحان تحت نفس النير. لكنها سيطرة الأيديولوجيا المغموسة فى غلالات دينية أو لنقل القراءات الدينية المؤدلجة.
هنا يكون العنف مبرراً لدى فاعليه ويكون القتل في سبيل المعتقد راسخاً وغير قابل لحوار وتراجع، أو إقناع بمراجعة معطياته.
فكيف للكنيسة أن تُفَعِّل دعوة مقاومة العنف، وهي في جزء منه أحد المستهدفين؟ هل تكتفي بالصلاة من أجل تدخل إلهى لحلول السلام؟ هل تتبنى دعوة المقاومة وهل تضمن ألا تنحرف عن دائرتها السلمية، فتصبح طرفاً مشاركاً فيه؟ وهىي لا تملك وقف تصاعده إذاً انفجر، أو السيطرة على تداعيات ذلك، وهي تتعامل مع واقع ملتبس وضغوطات متتالية واختلالات من أطراف عديدة فى إدارة الأزمة، وتراجعت سيادة القانون وزحف العرف ليتصدر المشهد وما ينتجه من تعميق الفجوة والجفوة؟
• ظنى أنها مطالبة بالعمل على محاور متوازية ومترابطة تبدأ بتعميق الحوار الجاد المشترك مع الرموز المعتدلة والمستنيرة من المسلمين سواء بشكل مؤسسى أو فردى بعيداً عن الأنساق الإحتفالية، وبعيدا عن الشو الإعلامى المفسد للرسالة وللمشاركين، وعلى أرضية فقهية ولاهوتية مستنيرة تتجاوز الصراعات والاختلافات التقليدية، مدعومة بمشاركة علماء علم الإجتماع بتنويعاته المتعددة السياسي والإقتصادي والتربوي.
• والعودة إلى الدور الإنمائي للمؤسسات الكنسية للمجتمع ككل، وقد نجح هذا الدور في تفكيك منظومة العنف في مواقف وأماكن عديدة، فى فترات تصاعد وتيرة الإرهاب في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، فمكافحة البطالة والفقر وفق منظومة مشروعات محلية خاصة في القرى والعشوائيات تعمل على تعظيم التدريب التحويلي يحول العاطلين إلى قوى منتجة، وصولاً إلى تشاركية العمل الإنمائي المجتمعى مع المؤسسات المناظرة على الجانب الإسلامى، سيؤدى بالضرورة إلى تعميق ثقافة القبول المتبادل ويبني جداراً عازلا فى مواجهة دعاوى العنف.
• فضلاً عن تفعيل الدور التعليمي ـ العام ـ عبر مؤسسات التعليم التابعة للكنائس والتي تحظى بقبول وثقة غالبية المصريين، وكانت محل احترامهم، وينتمي إليها غالبية الرموز التنويرية المصرية على اختلاف اديانهم ومذاهبهم ومواقعهم، ومازالت الأسر التى حظيت بنصيب من التعلم فى هذه المدارس تمثل صمام أمان فاعل فى المجتمع على امتداد العقود الماضية وحتى اللحظة.
• يبقى منظومة الإعلام المسيحي المصرية، وتحديداً الفضائيات، ووجوب تشكيل مجلس أعلى كنسى لها، يضم الخبراء والحكماء من أراخنة وشيوخ الكنائس، لوضع رؤية إعلامية تحولها الى قيمة مضافة للتنوير المجتمعى بدلاً من انكفائها على البعد الديني المباشر والذى يشيع حالة من الاستغناء عن العبادة المباشرة في الكنائس ويأتى سلباً على خدمتها، ولعلنا ندرس تجربة قنوات "نور سات" اللبنانية وكيف استطاعت أن تحقق المعادلة الصحيحة للجمع بين رسالتها الرعوية ورسالتها المجتمعية التنويرية، ودراسة تأثيرات وتداعيات هذا على الفضاء العام.
"معاً ضد العنف" لا يجب أن يبقى مجرد شعار يرفع وقت الأزمات، بل فعل على الأرض يعيد للاندماج الوطني الحياة والتحقق على الأرض، سعياً لوطن واحد يكون بحسب تعبير رفاعة الطهطاوي رائد كتيبة محمد على باشا التنويرية (1801- 1873م): "ليكن الوطن محلًا للسعادة المشتركة بيننا نبنيه معًا". ووجد هذا التعبير مكاناً فى ديباجة الدستور المصرى في إصداره الأخير (2014).