الفارق بين العقاب والانتقام فارق دقيق، العقاب عملية تربوية تستهدف القضاء على سلوك خاطئ، أما الانتقام فإنه سلوك يستهدف التنفيس عن الغضب من سلوك محرج أو مثير أو مرفوض دون أن يكون بالضرورة سلوكا خاطئا، وكثيرًا ما شاهدت كبارًا يندفعون غاضبين لتأديب مرءوسيهم أو أطفالهم معتقدين أنهم يعاقبونهم ولكنهم في حقيقة الأمر ينفسون عن غضبهم وأزمتهم هم، و يندر أن تؤدي تلك الاندفاعات المدمرة سوى إلى إثارة المزيد من العنف الناجم عن الإحساس بالظلم لدى من يوقع عليه العقاب.
ينبغي أن تكون الرسالة الموجهة للطفل أو المرءوس أو حتى الخصم أيا كان رسالة بالغة الوضوح: "نحن لا نرفض وجودك، بل نرفض خطأك"، وسوف يتوقف العقاب إذا ما انتهى الخطأ، و هو ما نفتقده في كثير من الأحيان سواء على مستوى العلاقات بين الأفراد أو حتى بين الدول حيث يحدث ما يطلق عليه "اختلاق الذرائع لتبرير العقاب".
لقد صادفت كثيرًا من الآباء والأمهات يتصورون أن الإقلال من شأن أطفالهم قد يدفع بهؤلاء الأطفال إلى مزيد من الحرص على الإنجاز، بل يصل الأمر أحيانًا، إلى حد التشهير بأطفالهم أمام الأقران، إنهم بذلك لا يدينون خطأ معينًا أقدم عليه الطفل، بل يدينون الطفل نفسه، ومن ثم فإنهم يدفعون بالطفل إلى طريق مسدود بحيث لا يجد أمامه سوى الانطواء أو التمرد، وفي أغلب الأحيان فإن هؤلاء الآباء والأمهات لا يتبينون بسهولة مدى مسئوليتهم عما تردى فيه أطفالهم.
إن فاعلية العقاب مهما كان عقابًا بسيطًا تتزايد كلما كان مصدر العقاب شخصًا محبوبًا، إن إيماءة معاتبة لا يلحظها أحد قد تكون كافية لتعديل سلوك الطفل أو المرءوس أو الزميل إذا ما صدرت تلك الإيماءة من شخص محبوب موثوق به، البشر الأسوياء لا يعرفون "الحب من طرف واحد" بل يحبون من يعبر لهم صراحة وضمنًا، قولاً وفعلاً، عن حبه واحترامه لهم، وفي إطار هذا الحب والاحترام المتبادل يكون للعقاب قيمة تربوية حقيقية.
كثيرًا ما شاهدت أطفالاً يعاقبون، والدهشة ترتسم على وجوههم وتنطق بها عيونهم، إنهم لا يدركون سببًا واضحًا مقنعًا لعقابهم، قد تكون الأسباب موجودة بالفعل، بل قد تكون أسبابًا قوية، لكنها موجودة في عقول الكبار الذين يتولون العقاب متصورين أن على الصغار أن يستنتجوها لأنها واضحة جلية غنية عن البيان.
ان توفير سبب عقلاني للعقاب يعد شرطًا ضروريًا لكي يحدث ذلك العقاب إثره التربوي المطلوب. ينبغي أن يكون ثمة إعلان مسبق يحدد ملامح السلوك الخاطئ، وأن الإقدام على هذا السلوك سوف يؤدي إلى العقاب وبدون هذه المقدمات سوف يفقد العقاب مبرره، ولا يترتب عليه سوى الإحساس بالظلم، والإحساس بالظلم كفيل بإعاقة أي تعديل حقيقي للسلوك.
إن غاية ما ينبغي أن ننجزه لتحقيق نبذ الأطفال للعنف هو إرساء مبدأ تفضيل الحلول السلمية للصراعات بكافة أنواعها، أي دفع اختيار القوة كأسلوب لحل المشكلات إلى ذيل القائمة، و لكي يتحقق ذلك فعلاً ينبغي تزويد أطفالنا بكافة "الأسلحة" التي تمكنهم من ممارسة الحلول السلمية للصراعات خلال حياتهم اليومية في المدرسة والمنزل والشارع والنادي.. إلى آخره، ليكن هدفنا هو "طفل يمارس السلام دفاعًا وهجومًا" وليس مجرد طفل يستطيع التحدث بطلاقة عن معنى السلام، وأهميته، ومزاياه، وضرورته.
و ليس من شك في أن ذلك يتطلب تشجيع الأطفال على التفكير الناقد، والثقة في الذات، والشجاعة في إبداء الرأي، والنقد الذاتي، والوعي بحقوق وواجبات الفرد كمواطن في مجتمع، وتحمل الاختلاف، وتقبل الآخر، والمرونة الفكرية، والابتكار، وكذلك ترسيخ عدد من القيم الأساسية وبالذات قيم الانتماء، والتعاون، والمشاركة، والديمقراطية.
إن تعريفات السلام تتعدد تعددًا يكاد أن يذهب بأي دلالة محددة للمصطلح في حد ذاته، فالسلام قد يعني عند البعض مجرد "السكون الظاهر" أو "عدم ممارسة أي فعل عدواني تحت أي ظروف كانت" أو "تقبل الواقع كما هو دون أي محاولة لتغييره إلى الأفضل" أو حتى "تفضيل الاستسلام للعدوان على تحمل أعباء مواجهته" إلى آخر تلك الفئة من التعريفات والتي تبعد كثيرًا عن مفهوم السلام الذي نعنيه، إن التعريفات السابقة وأشباهها لا تؤدي من حيث الممارسة الواقعية إلا إلى إحدى حالات ثلاث كلها تمثل تهديدًا حقيقيًا للسلام بل أحيانًا للحياة نفسها:
الحالة الأولى:
وهو ما يعني المحافظة على هذا الواقع كما هو دون تغيير، والوقوف من خلال عملية التنشئة الاجتماعية في وجه ذلك الميل الطبيعي لدى الطفل لتغيير الواقع.
الحالـة الثانية :
الاستسلام للعدوان، وهو ما يعني عمليًا - أيًا ما كانت التبريرات الفكرية - سيادة قانون الغابة ، بحيث يفرض الأقوى سلامه الخاص على المهزوم، وإلى جانب ما تحظى به هذه الحالة من إدانة أخلاقية فإنها تحمل في طياتها تهديدًا حقيقيًا لمستقبل ذلك الاستقرار الاستسلامي إذ يندر أن يستمر طويلاً.
الحالة الثالثة:
سكون اللاعنف واللاسلم أو وفقًا للتعبير الأكثر شيوعًا، حالة اللا حرب واللا سلم، وهي من الناحية العملية تعد الحالة المثلى لدعاة الحرب وتجار الأسلحة حيث يتم من خلالها شحذ أقصى درجات الاستعداد للقتال، والتنمر للانقضاض على الآخر وتدميره، ويتم في نفس الوقت استبعاد أي مساع ٍلتحقيق سلام حقيقي.
إن ما ينبغي أن نسعى إليه بحق هو "السلام الإيجابي".