الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

قهوة عبد الله!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما زلت رغم سنوات العمر المديدة قادراً على "الاندهاش"، وسط أجواء الارتباك التى تغشانا والمتوقعة كتوابع طبيعية لزلزال الثورة، هذه المرة اخترت بين أرتال الكتب كتاب "مع الرواد" للأديب المسرحى الكبير نعمان عاشور، الذى نقل المسرح المصرى من مربع الاقتباس والنقل عن الأدب العالمى إلى الغوص فى عمق المجتمع المصرى ليطرح إشكاليات الطبقة المتوسطة والطبقات الفقيرة بقلم ساخر مغلف بالكوميديا التى تفتح الطريق إلى المتلقى ومعها قدر من العصف الذهنى الباعث للتفكير والبحث عن مخارج، بداية من "الناس اللى تحت" التى ترصد التحولات الاجتماعية التى صاحبت ونتجت عن ثورة يوليو 52، وتمتد إلى "الناس اللى فوق"، ثم "عيلة الدوغرى" و"بلاد برة" و"بحلم بمصر" وغيرها.
الدهشة مصدرها ليس فقط ما حفل به الكتاب ولكن أن يصدر عن "مكتبة الأسرة" التى لم تطلها يد العصف كدأبنا مع المشروعات التى ترتبط بأسماء نراها جزءا من أنظمة غاربة، وربما يكشف هذا عن موضوعية الثورة وإدراكها لحتمية دعم الثقافة كمدخل أساسى للتنوير والخروج من نفق مظلم امتد لأنظمة وسنوات وربما عقود، وأن يتوفر الكتاب بدعم حقيقى بسعر زهيد وسط غول تكاليف الورق والطباعة والتوزيع، بأقل من ثمن الجريدة اليومية.
عندما تطالع الكتاب يدهشك أن يقدم له الأديب والناقد الأدبى والصحفى رجاء النقاش الذى يقترب بالقارئ من مفاتيح شخصية نعمان عاشور بل ومن المناخ الأدبى والثقافى السائد فى جيله، ويفكك جدلية بساطة الإنسان وجرأة الفنان عنده، وكيف استطاع أن يبدد خوفه فى قوة مشاهد مسرحياته المحمَّلة بالرسائل التلغرافية للسلطة والتى تلخص أنات الشارع وأحلامه.
يقترب الكاتب من عالم الرواد الممتد لنحو 15 شخصية من أعلام الأدب والشعر والصحافة والمسرح، طه حسين، ابراهيم عبد القادر المازنى، ابراهيم ناجى، عباس محمود العقاد، محمد مندور، سلامة موسى، جورج أبيض، نجيب الريحانى، محمود تيمور، محمود حسن اسماعيل، بيرم التونسى، مصطفى عبد اللطيف السحرتى، زكريا الحجاوى، نجيب سرور، واخيراً صلاح عب الصبور، كيف تعرف عليهم واقترب منهم، وعبر هذا يكشف جوانب من الأجواء السائدة وبعض من تأويلاته لأحداثها ليضئ كثير من المناطق المعتمة فيها.
وقبل جولته فى بستان الرواد يتوقف نعمان عاشور مع خبراته وبداياته الأدبية، ودور الندوات الأدبية فى تشكيل كتيبة الرواد وتأسيس الانطلاقة الثقافية التى رسمت خريطة العقل المصرى لأجيال قبل أن تغشانا رياح التصحر والجدب مؤخراً، مصاحبة لموجات التسطيح ومزاحمة البدائل التقنية التى تحولت إلى ساحات لمعارك ساذجة وصراعات ضيقة تذهب بما بقى من عمق أو أطياف تنويرية.
ويرى "أن الندوات والروابط والجماعات والهيئات الأدبية هى الهياكل التى تنصهر فى داخلها وتنبعث من خلالها الحركات والاتجاهات والتيارات الأدبية والفنية والفكرية المختلفة، وتعتبر من أقوم مهيئات النهوض الثقافى الحقيقى".
قد يدهشك معى أن هذه الندوات والتجمعات لم تكن تعقد بقاعات الفنادق الفخمة أو المراكز الثقافية المغلقة أو تدور بين النخب، إنما كان محلها رصيف الشارع الممتد أمام عدد من المقاهى فى أحياء شعبية، تجمع بين الأدباء وبين الشباب من طلبة المدارس والجامعات، وعندما يستعرض قائمة الندوات تكتشف أن لكل منها موعد اسبوعى دورى ومستقر، يكاد يغطى الأسبوع بجملته، كان نعمان عاشور يرتادها على التوالى، من ابرزها ندوة "كازينو أوبرا" صباح الجمعة ونجمها الأول نجيب محفوظ.. ومن حضورها الدائمين محمد عفيفى وعبد الحليم عبد الله وأمين يوسف غراب وعبد الحميد جودة السحار وعلى أحمد باكثير، وندوة "فصول" مساء كل اثنين بمكتب زكى عبد القادر ومن مرتاديها أحمد بهاء الدين وفتحى غانم وعباس صالح وغيرهم، وتتوالى ندوات رابطة الأدب الحديث والمقتطف وندوة جريدة الأهرام الليلية التى يعقدها أنطون الجميل ونجمها كامل الشناوى ولفيف من الشعراء، وندوة الدكتور إبراهيم ناجى مساء الأحد أسبوعياً بعيادته بشبرا ويحضرها صالح جودت وكامل أمين، فضلا عن ندوة العقاد بمنزله بمصر الجديدة يوم الجمعة، وهى بحسب نعمان عاشور ندوات مفتوحة لمن يرغب.
وفى ميدان توفيق (عرابى حالياً) بوسط القاهرة وعلى الرصيف تعقد ندوة زكى مبارك، وبالتوازى معها ندوة الفيشاوى فى رحاب الحرم الحسينى، فضلاً عن لقاءات المازنى وبيرم التونسى وزكريا أحمد فى مقاهى القاهرة. وفى كل هذه الندوات تشكلت وانطلقت مواهب كل أعلام الأدب والإبداع وتخرج أغلب الكتاب والفنانين والمفكرين والأدباء والنقاد.
ثم يتوقف نعمان عاشور طويلاً مع ندوة "قهوة عبد الله" والتى تعرف عليها عام 1936 بالمصادفة وهو يهرب من مطاردات "البوليس" لمظاهرة لطلاب المدارس الثانوية اشترك فيها لدعم احتجاجات الجامعة وقتها، إذ لجأ اليها هرباً ويصف المشهد "ما كدنا نصل الى ميدان الجيزة حتى قوبلنا بوابل من الرصاص فلجأت بسرعة إلى أقرب مكان .. وكان هو قهوة عبد الله فبقيت بداخلها مع بعض زملائى الطلبة فى حماية جرسونها عم عبده حتى هدأت الحالة، ومن بعدها صارت المزار الدائم الذى اتردد عليه ... وفيها اقضى كل اوقات فراغى". وتستمر علاقته اليومية بها بعد التحاقة بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها يشهد لقاءات انور المعداوى والدكتور كامل حسين والدكتور عبد الحميد يونس وزكريا الحجاوى والشاعر محمود حسن اسماعيل.
كانت قهوة عبد الله تجسيداً للحالة الثقافية وارتباطها بالحياة الواقعية لذلك كان روادها فى طليعة القوى المؤثرة فى حركة التنوير التى شهدتها مصر ... ومع نهاية الخمسينيات تختفى قهوة عبد الله بعد أن يهدم المبنى وتبنى مكانه واحدة من أكبر العمارات التى تطل على الميدان.
كانت مقاهى ذاك الزمان حلقة الوصل بين الأجيال خاصة الأدباء وكانت تشهد نقاشات حادة بين المدارس والأجيال المختلفة، وظنى أننا بحاجة إلى إعادة إحياء هذه الندوات بأشكال متطورة فى ضوء مزاحمة آليات التواصل وتقنياتها الحديثة فى العالم الإلكترونى الافتراضى الذى اكتسح الحميمية والتواصل المباشر، وبحاجة إلى مقاومة اجتياح الندوات السياسية العقيمة للمشهد وانحسار الندوات الثقافية والادبية والفنية الإبداعية، والتى هى ادوات التنوير الحقيقية والتى تقدر على مواجهة التراجعات المجتمعية العديدة التى ولدَّتها حالة الجزر الثقافى التى تسودنا اليوم.