تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ما الذي كنا نحتاجه لسد الفراغ الذي خلقه ضرب تنظيم الإخوان الإرهابي؟ إن آخر ما كان يعوزنا هو تكرار نموذج السادات في إحلال قوة نقيض مكان الإخوان، وتصور سد الخانات، و"تقفيل" الدومينو، إذ أن وجود قوة سياسية أو فكرية معينة كقائد لحركة الدولة وفكر مؤسساتها ينبغي أن يكون تلبية لاحتياج الناس الطبيعي في لحظة بعينها، وليس وفقا لتصورات نظرية أشبه بالهندسة الجينية (السياسية) التي تتم في الغرف المغلقة.
لقد انساق السادات وراء فكرة تصعيد الجماعات المتأسلمة في مواقع القيادة الشعبية والتنظيمية ليضرب قوى الناصريين واليسار التي ناصبت خياراته السياسية العداء، واصطدمت بها فى كثير من الأحيان.. وقد أفضت بنا تلك النظرية الخاطئة - على نحو مروع - إلى ما نحن فيه الآن – من مواجهة مع كتائب الجمود والتطرف والتخلف والرجعية التى تضخمت (مثل فرانكشتاين في المعمل) لتستحيل وحشا يحاول الفتك بالناس وبتراث الدولة الحديثة فى مصر.
المسألة – بتبسيط مخل، هي مثل قانون التوازن الطبيعي، فى الغابة لا ينبغي اللعب فيها بتلك العشوائية التي يمكن أن تسلمنا إلى التهلكة.
أخطر ما ألحظه – اليوم – هو أن البعض يرى أو يطرح صعود الناصريين إلى عدد من المقاعد التي تسيطر على مؤسسات مهمة، أو إلى مراكز الاستشارة والتداول والتوجيه، هو تكرار لنفس لعبة السادات بإحلال المتأسلمين مكان الناصريين وقوى اليسار لحصارهم وتحجيمهم وتصفيتهم.
والحقيقة إننى لا أريد ذلك للقوى الناصرية (الأقرب إلى تفكيري ومزاجي السياسيين)، ولا أظن أن الناصريين أنفسهم يمكن أن يقبلوه، وإن أسرع بعضهم إليه مدفوعا بنشوة الانتصار أو الرغبة في الاستحواذ، أو بإغراء التقدم في مساحات من الخلاء السياسي خلفها انسحاب المتأسلمين وقد أجبروا عليه فى موقعة تاريخية ما زالت مشاهدها تترى.. وأسباب رفضي تكرار نموذج السادات بشكل عكسي في المرحلة الحالية (الناصريون محل الإخوان.. بدلا من الإخوان محل الناصريين) يمكن إيجازها في النقاط التالية:
• أولا: الناصريون ينبغي عليهم أن يمدوا فكرهم إلى ما يجاوز الارتباط الحزبي والتنظيمي الضيق، وفكرة نقاء العنصر التي تستبعد – بنمكية – كل من ليس ناصريا وحتى من كان ناصريا إلا قليلا!
إذ أن ذلك الوضع يخلق منهم أوليجاركية حاكمة (طبقة أو زمرة مصالح) ولا يجعل منهم طليعة لمجتمع تتقدم به إلى حيث تحقيق الأهداف الوطنية والقومية.
• ثانيا: على الناصريين فهم أن السيسي هو ظاهرة تاريخية وسياسية يصعب جدا تصور فكرة عزلها عن كل .. (كل) المصريين وتأميمه أو خصخصته لصالح فريق حزبي، أو وعاء تنظيمي، لأن السيسى انبنى وجوده على تأييد غامر غلاب من مجمل القوى الشعبية، وليس قسم منها يختاره ويصطفيه بانتقائية، وإن فعل فسوف يخاصم مغزى الظاهرة التي يمثلها والتي عرفناه بها وأسسنا لكل مواقفنا في تأييده على أساسها.
• ثالثا: يفترض أن يكون الناصريون طليعة للحسم ليس بينهم وقوى مدنية أخرى تتمايز أو تتضاغط معهم في الرأي والاتجاه، وإنما هم رأس حربة لحسم القسمة – التي طالت أكثر مما ينبغي – بين القوى التي تؤيد (خيار الدولة المدنية) وهم منها، وبين القوى التي تسعى نحو (خيار الدولة الدينية) والتي – بحكم التعريف والتجائها إلى مرجعيات مقدسة وشبه مقدسة – تلاشي احتمالية التنوع أو الاختلاف أو المعارضة أو تداول السلطة.. يعني تضرب – في مقتل – الفكرة الديمقراطية التي لا بد أن تكون محل التوافق الأساسي بين القوى السياسية التى تعيش بين ظهرانى هذا البلد.
• رابعا: هناك ضرورة للتخلي عن منطق احتكار كل مواقع التحكم والسيطرة في هيكل الدولة لتيار بعينه، لأن ذلك يحول البلد إلى بطة عرجاء ويحرمها الاستفادة من مجمل عناصر قوتها البشرية على نحو صحي وصحيح، فضلا عن إهداره قيمة المعايير المهنية والموضوعية لصالح الارتباط السياسى والأيديولوجي على نحو بائس جدا.
• خامسا: لو بنى الناصريون (وبعضهم يفعل ذلك الآن) وجودهم على منطق (الواحدية التى تقصى الآخرين)، فإنهم – واقعيا – سوف يغايرون المزاجية السياسية التى سادت زمن جمال عبد الناصر، فالرجل – على الرغم من طبيعة وسمات سلطته – لم يك اقصائيا، طالما صف أصحاب الاختلافات الفكرية معه فى إطار مشروع دولته الوطنية فى نهاية المطاف، وهكذا كان يسمح بمراكز التنوع فى "الأهرام" بين عدد من الكتاب والأدباء بعضهم كانوا من الشيوعيين الذين تم الإفراج عنهم عام 1964 قبيل زيارة رئيس الوزراء السوفيتى الشهير نيكيتا خروشوف.
• سادسا: عملت الآلة الإعلامية الناصرية على إفشاء وتأكيد فكرة أن (السيسي هو عبدالناصر جديد)، وبفعل أشواق شعبية غامرة إلى عبدالناصر وما يمثله زمنه، ذاعت الحالة التي شابهت (في انتظار جودو) للكاتب الأيرلندي صامويل بيكيت، والحقيقة أن محبة الناس لعبدالناصر حقيقية، وعواطفهم إزاء السيسي صادقة، ولكن المطابقة بين الرجلين لا تجوز، لأنها تحرم السيسي حقه في الابتكار خارج حدود التجربة الناصرية، وستجعله – باستمرار – موضع مقارنة فيما المقارنة لا تكون إلا بين وحدات متكافئة، وفي سياقات زمنية وموضوعية واحدة.
• سابعا: أن الناصريين يتشابهون في نقطة واحدة مع الإخوان هى أن كل من الطرفين يحاول إبقاءنا فى إطار وضع ماضوي لا يراكم عليه تجديدا فكريا يذكر، الإخوان يجذبوننا إلى القرن العاشر، والناصريين يشدوننا إلى الستينيات، ولابد أن يكونوا أهلا لتقديم الطبعات الجديدة المزيدة والمنقحة من النسخة المحدثة للناصرية.. وأحسب أن القوى الناصرية وأن المؤيدين لجمال عبد الناصر منا جميعا، قادرين على تحقيق ذلك.
• ثامنا: لكى تقوم الطليعة الناصرية بقيادة المجتمع ينبغى أن تكون لها تنظيماتها القوية القادرة على بناء قاعدة تصويتية تؤكد أنها ليست ظاهرة تعيش على تراث الزعيم جمال عبد الناصر – فقط – وإنما هى تعبير تنظيمى عن الناس فى أوسع صور تجمعاتهم.
محبتى للناصريين (هياكل وأفراد) لم تمنعنى من كتابة هذه السطور وارتباطي بالسيسى وأملي في بناء تجربة مستقبلية مستقلة على يديه تكون امتدادا لكل المراكمات الإيجابية في تاريخنا دفعني إلى أن أخط هذه الكلمات.