الأربعاء 23 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

وهم الخلافة (1-4)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تكاثر الحديث في الآونة الأخيرة، وتصاعد أكثر فأكثر مع استيلاء جماعة الإخوان علي الحكم. وتولي د. محمد مرسي مقعد الرئاسة. ثم إصرار عدد من الجماعات السلفية علي إثارة مسألة الخلافة باعتبارها فريضة واجبة النفاذ ولا يكتمل إسلام المسلمين إلا بقيامها.
الأمر الذي دفعنا إلي الحديث عنها وفحص موضوعها. وكعادتنا نبدأ بالتعريف اللغوي في القاموس الوسيط نقرأ تعريف الكلمة “,”والخلافة هي الإمامة والخليفة هو المستخلف والسلطان الأعظم“,” أما التعريف المصطلح عليه فهو أن الخلافة “,”رئاسة عامة للمسلمين في كل الدنيا“,”.
وعند وفاة الرسول “,”ص“,” ثارت هذه المسألة وتطلع البعض من آل بيته لخلافته، لكن عمر بن الخطاب كان واعيا بأن ذلك قد يتحول إلي تقليد مستمر فقال لابن عباس “,”إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء شمخاً بذخاً“,” . لكن أبا بكر كان يعرف حدوده كحاكم مدني، وكان يدرك أنه لا يمتلك سلطان أن يسوس الناس كما كان يسوسهم الرسول الذي كان يوحي إليه والذي كان له فضل النبوة. فوقف في الناس يوم توليه الخلافة قائلا “,”أما والله ما أنا بخيركم، ولقد كنت لمقامي هذا كارها، ولوددت أن فيكم من يكفيني“,”. ثم سأل الجالسين حوله “,”أتظنون أني أعمل فيكم بسنة رسول الله؟ إذن لا أقوم بها، إن رسول الله كان يعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطانا يعتريني، إلا فراعوني، وإن زغت فقوموني“,”.
لكن الأمر لم يستقر. فقد ظل أتباع سيدنا علي ولم يزالوا يعتقدون بأحقيته في خلافة الرسول، بل هم يضيفون أحيانا إلي خطبة الرسول في حجة الوداع ما يوحي بذلك “,”علي مني وأنا من علي، من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والي من والاه، وعاد من عاداه، إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي“,”. ثم نقرأ تعليقا علي هذه الإضافات “,”إن الوصية مدقوقة كالوشم علي جبين علي، لا التاريخ عمي، ولا أي رجل كريم من رجالات ذلك العصر كان يعمي عن قراءة الحقيقة. ولكن سياسات الزعماء المتشربين روح القبلية هي التي عميت“,”. ثم يكون الهجوم علي عمر بن الخطاب شديداً وقاسياً ونقرأ “,”لم يكن عمر بن الخطاب ضعيف السجية، أنه كريم عفيف بين الرجال، ولكن عنجهية قبلية نائمة في بطانة نفسه ما سمحت له، ولا قبلت أن يتقدم عليه وعلي أمثاله من وجهاء الجزيرة فتي لا يزال أمرد، لقد كان حس ابن الخطاب بمركز الزعامة أرجح من حسه بقيمة الرسالة، إن هناك خبيئة من الماضي الوخيم تعشش في ضلوعه، إنها الأموية فيه ضد الطالبية الهاشمية“,” (أي ضد بني طالب وبني هاشم). بل إن صاحب الكتاب يقول إن عمر بن الخطاب قد “,”وظف اجتماع سقيفة بني ساعدة ليبعد عليا عن حقيقته وحقوقيته في الإمارة وإحلال أبي بكر فيها كأنما الرضوخ لمشيئة النبي هو الخطأ، والوقوع في المعصية هو الصواب“,”.
وهكذا فتح باب الصراع حول الحق في الحكم علي مداه، وتمادي حتي الآن.
ومنذ اليوم الأول لوفاة الرسول تحول أمر الحكم إلي مسألة إنسانية، فالوحي انقطع، وحكم الحكام بالرأي أو بما يعتقدون هم أنه متطابق مع الشرع، لكن هذا الاعتقاد يبقي هو أيضا إنسانياً يحتمل الصواب والخطأ.
وفي نهاية أيام ابن الخطاب اختار مجموعة من كبار الصحابة لتختار خليفته قائلا “,”والله ما أردت أن أحمل وزرها حياً وميتاً“,”. وبعد مقتل عمر أتي ممثل هذه المجموعة إلي علي بن أبي طالب قائلا “,”يا علي أبسط يدك لأبايعك علي كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين (يقصد أبا بكر وعمر)، لكن عليا أبي قائلا: كتاب الله وسنة رسوله نعم، أما الشيخان فلهما رأي ولي رأي. وها هو يؤكد مرة أخري أن الحاكم في الإسلام يحكم برأي إنساني نسبي الصحة كما أنه نسبي الخطأ.
ويختلف الحكام في أحكامهم وفي أسلوب تعاملهم مع الناس. فعثمان كان هادئا وديعاً وغير عنيف في أحكامه فأسموه بالضعيف وعاملوه علي أساس ضعفه فوقف صارخا ذات يوم علي المنبر قائلا - وفقا لرواية الرواة - “,”كان ابن الخطاب يغلظ عليكم، ويؤذيكم بلسانه ويده، ويطأكم بقدمه فخفتموه وعظمتموه، ألا إن حلمي هو الذي جرأكم علي“,”.
وهكذا تنوع الحكام وتنوعت أحكامهم. ويروي الإمام السيوطي أن الخليفة عبدالملك بن مروان (حكم 73 – 86 هجرية) خطب يوم ولايته قائلا “,”أيها الناس، لست بالخليفة المستضعف (عثمان) ولا بالخليفة المداهن (معاوية) ولا بالخليفة المأفون (يزيد) ألا إني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتي تستقيم لي قناتكم، والله لا يفعلن أحد فعله إلا وجعلتها في عنقه، والله لا يأمرني أحد بتقوي الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه“,”.
وهكذا كانت الأمور علي الدوام، فالشريعة والقول بالحكم بها كانا يتحولان دوماً إلي أفعال إنسانية، والبشر يتشكلون بحسب انتماءاتهم ومصالحهم وأخلاقياتهم. وما كانت هذه الأحكام جميعا إلا مسائل إنسانية لا علاقة لها بما ترتديه من ثياب دينية. ذلك أن الإسلام ما كان ولن يكون كذلك الذي فعلوا، وهو لا يقبل بذلك.
والحكام المتجبرون أجبروا الناس علي الخضوع لما يريدون وتعالت أصوات المنافقين لتخترق كل حواجز النظر الإسلامي لهذا الحكم. ونستمع إلي شعر يقول:
إن الخليفة قد أبي
وإذا أبي شيئا أبيته
وشاعر آخر يصل إلي حدود غير مقبولة مخاطباً الخليفة:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
ويتضاحك أحد الشعراء علي هؤلاء المنافقين فيقول:
ما قال لا إلا في تشهده
لولا الشهادة كانت لاؤه نعم
وما كان ذلك إلا لأن بعض فقهاء السلطان قد وصفوا هذا النوع من الحكام بأنهم خلفاء الله في الأرض، أو حتي خلفاء رسول الله. ثم كان الأمر كذلك الأمر في العصر الحديث فأبو الأعلي المودودي يقول: إن المطلوب للمسلمين الآن هو “,”حاكم يقوم بوظيفة خليفة الله، فليس لأحد أن يأمر وينهي من غير أن تكون له سلطة من الله“,”. وقبله قال أبوالحسن المواردي في كتابه الأحكام السلطانية “,”إن أهل الرأي متي عقدوا البيعة للإمام لا يجوز لمخلوق نقضها، لأن الرعية عليها بموجب هذه البيعة الطاعة والنصر للإمام ما وسعتهم الطاعة، ولا يحل لهم القيام عليه بحال من الأحوال“,”. أما القانون الأساسي العثماني فينص “,”ذات الحضرة السلطانية مقدسة وغير مسئولة أمام أحد“,”. وفي مصر نسمع ذات الشيء من الأستاذ حسن البنا إذ يقول “,”إن الخلافة تقوم لوراثة النبوة“,”. ومثله يقول الشيخ عمر عبدالرحمن “,”الإمامة في الإسلام موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا“,”.
وينسي هؤلاء جميعا أن المسلمين كانوا أكثر فطنة فأسموا الأمور بمسماها الحقيقي، فكل خلافة وكل دولة نسبت إلي اسم بشري، الدولة الأموية - العباسية - السلجوقية - العثمانية.. إلخ. ولو كانوا يعتقدون بغير ذلك لما تواتر استخدامهم للأسماء البشرية علي مدي كل العصور.
ويبقي التساؤل، ما هو الموقف الفقهي من فكرة الخلافة ذاتها؟
يقول الشهرستاني، في كتابه نهاية الاقدام “,”إن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد“,”.
ويقول الجرجاني “,”إن الخلافة ليست من أصول الديانات والعقائد بل هي من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين“,” (الجرجاني - شرح المواقف). أما الإمام الغزالي فيقول في كتابه، الاقتصاد في الاعتقاد “,”إن الإمامة ليست من المعتقدات“,”. أما أبوحفص عمر بن جميع فيقول “,”إن الإمامة مستخرجة من الرأي وليست مستخرجة من الكتاب والسنة“,” (عقيدة التوحيد). أما الإمام نجم الدين النسفي فيقول في كتابه العقائد النسفية “,”يشترط في الإمام أن يكون من قريش ولا يجوز من غيرهم“,”. ويكمل القاضي عضدالدين في كتاب “,”المواقف“,”، “,”فإن لم يوجد شخص مستجمع شروط الإمامة فلا يشترط قيامها“,”.
أما الآمدي فيقول “,”واعلم أن الكلام في الإمامه ليس من أصول الديانات، بل لعمري فإن المعرض عنها لأرجي حالا من الواغل فيها، فإنها لا تنفك عن التعصب والأهواء، وإثارة الفتن والشحناء“,”.
ونأتي بعد ذلك إلي القرآن الكريم.. فالكثيرون من دعاة الخلافة يستندون إلي آيات من القرآن مثل “,”إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله“,” النساء 105. لكن البيضاوي في تفسيره والقرطبي في كتابه “,”الجامع لأحكام القرآن“,” يؤكدان كلمة “,”تحكم“,” هنا كانت تعني أن تكون قاضيا بينهم. ويؤكد أغلب الفقهاء أن كلمة “,”الحكم“,” تعني في القرآن “,”الحكمة“,” أو“,”الرأي السديد“,” ويستدلون علي ذلك بآيات عدة “,”يا يحيي خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً“,” مريم12. ولم يكن النبي يحيي حاكما بل منحه الله الحكمة وهو صبي. وآية أخري عن عيسي بن مريم تقول “,”ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي“,” آل عمران 79. ولم يكن السيد المسيح حاكما. وكذلك لوط “,”ولوطاً آتيناه حكما وعلماً“,” الأنبياء 74. وموسي “,”ولما بلغ أشده واستوي آتيناه حكما وعلماً“,” القصص14.
وعدد آخر من الآيات الكريمة، تؤكد كلها في معناها وفي حقيقة ما تتحدث عنه أن فكرة الحاكم المتحدث باسم السماء والحاكم بأمرها ليست واردة في القرآن الكريم..
***
وفي مصر جري حديث كثير يرفض “,”مصر“,” الوطن ويواجهها بفكرة الخلافة، ويتحدث أصحاب هذا الرأي بشغف ووله عن الخلافة العثمانية.. وفي مواجهتهم يكون هتاف الشعب المصري الذي استمر يردده لأمد طويل “,”يارب يا متجلي أهلك العثماللي“,” فكيف كان ذلك.. ولماذا؟
كيف بدأت علاقة مصر بالعثمانيين وخلافتهم؟ لنعد إلي صفحات التاريخ..
وللحديث بقية