تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
بعيداً عن الإنحيازات السياسية أو لغة التبريرات، علينا ان نقرأ اللحظة بموضوعية حتى لو جاءت مؤلمة وصادمة، فهى اللحظة التى جاءت نتاجا لتراكمات ممتدة لعقود مورس علينا فيها تجارب سياسية افتقرت فى كثيرها إلى التأسيس العلمى أو الخبرة أو فى بعضها الإيمان بها، فجاءت الإشتراكية بغير اشتراكيين وجاءت الرأسمالية بغير رأسماليين، ووجدنا نفس الشخوص يتصدرون المشهدين، بل وجدناهم يقصرون ثيابهم ويطلقون لحاهم حين هبت رياح التأسلم السياسى، حتى أطلق المراقبون على الأولى اشتراكية الفقر وعلى الثانية انفتاح السداح مداح، وعلى الثالثة انتهازية الانكسار الحضارى.
كانت كل الأنظمة تحقن المجتمع بالمسكنات وتعالج العرض دون المرض، وكان الدعم أحد ابرزها، كانت بداياته مع أجواء الحرب العالمية الثانية مع ضرورات اقتصاد الحرب، وتوجيه الموارد الى الجانب العسكرى، وتكررت التجربة مع الحروب التى خضناها بشكل متواتر بفاصل زمنى لا يتعدى عشر سنوات، استنزفت وانهكت ـ مع اختلالات الخيارات السياسية ـ الإقتصاد وموارده، مع زيادة الأعباء العامة، وتراجع المكون القيمى وتجريف المهنية والاحترافية ومن ثم الجودة فى المنتج والأداء، وشيوع التواكل والحلول الأسهل، قروضاً ومعونات، تبتلعها تضخمات الجهاز الإدارى والبطالة المقنَّعة وشيوع الفساد الذى دمر ما بقى.
وتحت ضغط الإنهيار الإقتصادى جاءت العلاجات مرتبكة لم تلتفت الى رأس المال الإجتماعى ورأس المال البشرى، وتغافلت عن مدخلات تشكيل الوجدان والعقل الجمعى، التعليم والثقافة، والتى كان بمقدورها بحسب خبرات دول العالم الثالث التى خرجت من حزام الفقر وقفزت إلى صفوف الاقتصادات المتقدمة أن تكرس ثقافة العمل والإنتاج والإجادة باعتبارها آليات الخروج الحقيقى من أزمة التراجع الإقتصادى.
الثقافة ليست ترفاً فهى التى تصوغ كافة مظاهر وأشكال السلوك البشرى، ولا يمكن بحال أن يتحقق الإصلاح الإقتصادى فى غير بيئة ثقافية تستوعب قيم العمل والإنتاج، ونجد أنفسنا أمام مطلب رئيسى وحتمى هو التحول الإجتماعى الى مجتمع منتج بعلى من قيمة الوقت الذى يحسب أحد أهم عناصر الإنتاج وكيفية إدارته، ومجابهة الفاقد منه، والذى يكشف حجمه الكارثى اجتياح المقاهى لشوارعنا فى الأحياء الفقيرة والمتقدمة والمتميزة باعتبارها المشروع المضمون الاستمرار والعمل والربحية.
وقد رصد تقرير للتنمية الإنسانية العربية أورده ﺩ. ﻏﺴﺎﻥ ﻤﺤﻤﻭﺩ ﺇﺒﺭﺍﻫﻴﻡ استاذ الإقتصاد بجامعة دمشق فى دراسة له؛ [ﺃﻥ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻤـﺎل ﺍﻟﺒﺸـﺭﻱ ﻭﺍﻻﺠﺘﻤﺎﻋﻲ ﻴُﺴﻬﻡ ﺒﻤﺎ ﻻ ﻴﻘل ﻋﻥ 64% ﻤﻥ أداء ﺍﻟﻨﻤﻭ، ﺒﻴﻨﻤﺎ ﻴﺴﻬﻡ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻤﺎل ﺍﻟﻤﺎﺩﻱ ﻭﺍﻟﺒﻨـﻰ ﺍﻟﺘﺤﺘﻴﺔ ﺒﻤﺎ ﻤﻘﺩﺍﺭﻩ 16%، ﻜﻤﺎ ﻭﺘﺴﻬﻡ ﺍﻟﻤﻭﺍﺭﺩ ﺍﻟﻁﺒﻴﻌﻴﺔ ﺒﻤﺎ ﻤﻘﺩﺍﺭﻩ 20%، ﻭكأﻥّ ﻋﻤﻠﻴـﺔ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﻭﺍﻹﺼﻼﺡ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻱ ﺘﺘﻤﺜل ﺃﺴﺎﺴﺎً ﺒﺎﻷﻓﺭﺍﺩ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻭﻟﻴﺱ ﺒالمؤﺸﺭﺍت ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ ﺍﻟﻜﻤﻴﺔ ﺍﻟﻤﺎﺩﻴﺔ المجردة، ومن ثم ﻓﺎﻹﺼﻼﺡ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲّ ﻴﺒﺩﺃ ﺒﺈﺼﻼﺡ ﺍﻟﺭﺅﻯ ﻭﺍﻷﻓﻜﺎﺭ ﻭﺍﻟﻤﺒـﺎﺩﺉ ﻭﺍﻟﻘﻴﻡ ﻭﺍﻟﺴﻠﻭﻙ ﻭﺍﻟﻤﻤﺎﺭﺴﺎﺕ؛ ﺃﻱ ﻤﺎ ﻴﺸﻜل «ﺍﻟﺫﻫﻨﻴﺔ» ﺍﻻﺠﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﺍﻟﺴﺎﺌﺩﺓ.
غياب الشفافية والمكاشفة تحت ضغوط غياب الرؤية ومتطلبات الفساد الذى استشرى حتى كاد يمثل ثقافة مجتمع ارتضاه وتعايش معه كان السبب فى احجام الأنظمة المتعاقبة وحكوماتها عن التصدى الحاسم للفجوة المتعاظمة بين الموارد والإحتياجات والتى انعكست على الموازنة العامة للدولة، وتزايد العجز فيها، وعلاجاته بالاقتراض وما يمثله من اعباء مضافة سواء فى سداده او فى خدمة الدين من فوائد تراكمية تستنزف كل امكانات التنمية، والتى تكاد تسلمنا إلى الإفلاس، ما لم نواجه واقعنا ونعترف بأننا لا نملك التعاطى معه وفق المفاهيم التقليدية وتقسيماتها المتعارف عليا، موالاة ومعارضة، فالكل سيدفع الثمن ومعه الوطن بما يتجاوز امكاناتنا وبما يتجاوز صراعات الفرقاء الضيقة، فالطوفان لا يبقى ولا يذر.
الوقت ادعى لعقد مؤتمر اقتصادى مغلق، لا تشيطنه الفضائيات، يضم المتخصصين والخبراء على اصعدة ومجالات متعددة اقتصادية واجتماعية وسياسية، فى دوائر وورش عمل محددة المهام والمحاور المطروحة ثم تلتئم فى اجتماعات موسعة برعاية مؤسسة الرئاسة مع توفر ضمانات المكاشفة الموثقة، يخرج المؤتمر بقرارات قابلة للتطبيق حتى لو كانت صادمة، فمغازلة الشارع لم تعد مجدية، ترحل الأزمة وتعمقها.
نحتاج لدور جديد لرجال الأعمال يدرك أهمية الخروج من دائرة المكاسب المباشرة الى الرؤية الاستراتيجية، ولعلهم يدركون أن نيران انفجار التردى الإقتصادى ستكلفهم الكثير وسيكونون الدفعة الأولى والمباشرة التى تلتهمها.
نحتاج إلى دور أكثر ارتباطاً يالمجتمع للجامعات ومنظومة التعليم، جودى وأداء وبحثاً علمياً لإعداد كوادر فاعلة فى دوائر العمل المهنى والأكاديمى، ورؤية اكثر تقدمية للدور التنويرى لها.
نحتاج الى حكومة تواجه الواقع وتملك تحدى العاطفة الشعبية، التى تشكلها خبرات سابقة، وتحركها ما تراكم من عدم ثقة بفعل سياسات حكومات سابقة، تبدأ بإعادة هيكلة دواوينها والتخلص من التكدس وتطوير أدائها، من خلال التدريب التحويلى الذى يحول العمالة الزائدة الى عمالة فنية بالتعاون مع المواقع الانتاجية والقطاع الخاص، مع توفير ضمانات تحميهم من العصف بهم، وابتداع آليات جديدة لاقتحام مدارات الزراعة والثروة المائية والتصنيع الزراعى واستصلاح الأراضى، وهى تجربة مرت بها وزارة الزراعة مع موظفيها من خلال تحفيزهم للخروج من الدولاب الوظيفى إلى دائرة التنمية الزراعية وتمليكهم اراض مستصلحة ودعمهم فنياً ولوجساياً، ثم توقفت فجأة دون مبرر مقبول.
نحتاج إلى مواجهة الفساد فى منظومة الادارة المحلية والذى تم تطبيعه فى وجدان كل الأطراف، بالفصل بين الإدارات الخدمية بها والتى تتحكم فى كل دقائق حياة المواطن من الميلاد الى الوفاة، مروراً بتراخيص العمل والبناء والتجارة والأسواق وإدارة محلات العمل والمكاتب المهنية حتى تراخيص بناء وتجديد المقابر، بإدخال النظم الحديثة والميكنة وتعميم شبكة المعلومات الإليكترونية، والتى تطبق فى اقصى المسكونة، وفى دول كانت فى ذيل قائمة الفقر وهى الآن محل طموح الشباب للهجرة اليها، ولعل الحكومة تراجع أسباب فشل نظام الشباك الواحد التى ولدت مبتسرة ولم تجد حضانة مناسبة لاكتمالها وكادت توارى ثرى البيروقراطية المتأزمة والمتجمدة.
نحتاج الى منظومة قوانين اقتصادية تعيد توزيع الأعباء بحسب الدخل فى تدرج حقيقى يعيد الدور المطلوب من رجال الأعمال والكيانات الاقتصادية الكبيرة.
نحتاج الى مراجعة منظومة الإعلام والفضائيات ووضع قواعد ملزمة لأدائها المهنى باعتبارها الفاعل الأكبر والأخطر فى توجيه المجتمع.
نحتاج إلى تعميق الانتماء المصرى وإحياء منظومة القيم المصرية التى جرفتها الثقافات المتصحرة، وندع النيل يجرى ليغطى أرضنا المشققة والعطشى.. يروي ظمأنا لحميمة نفتقدها واندماج حقيقى طال انتظاره.