تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أشرنا في مقال سابق إلي أن السبل التي توصل لها البشر خلال بحثهم عن السعادة، سواء المزاج إلي سبيلين أساسيين تتفرع من كل منها سبل فرعية تزيد أو تقل:
• سبيل يقوم علي تغيير الواقع المعاش وأن المصدر الأساسي بل الوحيد لتعاسة الإنسان إنما يكمن في واقعه الاجتماعي، وما يتضمنه ذلك الواقع من ظلم وقهر وتعسف، وأنه لا سبيل للتخلص من تعاسة الإنسان إلا بتعديل تلك الظروف المسببة للتعاسة.
• وسبيل يقوم علي تعديل الوعي بذلك الواقع
وحديثنا في هذا المقال عن السبيل الثاني، أعني تعديل المزاج عن طريق تغيير الوعي بالواقع، ونستطيع أن نمايز داخل هذا السبيل بين عدة اتجاهات:
أولا:
اتجاه يسعي لتعميق الوعي بالواقع تبصيرا للفرد بالجذور الاجتماعية الاقتصادية التاريخية لمعاناته ولما يكابده من شقاء، دفعا به إلي ضرورة السعي لتغيير ذلك الواقع لبلوغ ما يرجوه من سعادة وغني عن البيان أن السعادة المرجوة عن هذا السبيل لا تتأتي في طرفة عين بل يقتضي بلوغها مزيدا من الجهد والألم، ولكنه يكون جهدا محققا للذات وبالتالي يكون في حد ذاته مصدرا للسعادة والرضي. ويكاد يقتصر أصحاب هذا الأسلوب من السعي لبلوغ السعادة علي دعاة التغيير الاجتماعي من القادة السياسيين والدينيين و غيرهم من المفكرين، وفي تاريخ علم النفس نماذج قليلة فريدة من علماء النفس ممن وظفوا علمهم وفنياته المتخصصة في خلق وعي يدفع للتغيير الاجتماعي، ويكفي أن نشير من بينهم إلي اجتهادات وجهود جورج بوليتزير وفيلهلم رايخ واريك فروم، وغني عن البيان أن هذا الاتجاه يشترك مع السبيل الأول الذي آثرنا عدم الخوض في تفاصيله – أي سبيل تغيير الواقع المعاش- في التسليم بأن مصدر التعاسة يكمن في ظروف العالم الخارجي، وإن كان أصحاب هذا الاتجاه بحكم تخصصهم يرون أن الوعي الاجتماعي هو السبيل الآمن لتحقيق تغيير حقيقي في الواقع المعاش.
ثانيا:
إتجاه يقوم أيضا علي أن منشأ التعاسة يكمن في الواقع الخارجي، ولكن أصحاب هذا الاتجاه لا يرون سبيلا لتغيير هذا الواقع و من ثم فلا بد من تحمله والقبول به كما هو، فإذا ما تعذر احتمال آلامه فالسبيل الوحيد المتاح هو محاولة التدخل بتعدبل الوعي لتتحقق السعادة رغم استمرار الواقع كما هو، ومن هنا عرف الإنسان خبرة تعاطي المخدرات.. حيث اكتشف أن سعادته مخدرا لا تقارن بتعاسة صحوه، وأن نسيانه أو تناسيه وتجاهله لمخاطر وآلام الواقع تجلب له من الطمأنينة ما لا يقارن بالعذاب والقلق الذي ينجم عن العلم بمآسي الحاضر وبكوارث المستقبل، وما تتطلبه مواجهتها من جهد. " ذو العلم يشقي في النعيم بعلمه, وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم".
ولعل من يفضلون سعادة اللحظة الراهنة مهما كانت خطورة المشكلات القائمة والقادمة قد يمثلون الغالبية في بعض الأحيان، والأمثلة حولنا تفوق الحصر يحضرني منها مثلًا ما تشير إليه الإحصاءات الطبية من أن نسبة كبيرة ممن يشعرون بأعراض ارتفاع ضغط الدم, ويعرفون معني ما يشعرون به أنهم يعزفون عن استشارة الطبيب.. مفضلين سعادة التجاهل علي آلام الوعي بالمشكلة.
وكذلك فإن من يقدمون علي تعاطي المخدرات مثلًا لا تنقصهم المعلومات عما يتهددهم من مخاطر، بل لعلهم أكثر الناس إحاطة بمثل ذلك النوع من المعلومات، ولكنهم في الغالب يحرصون أيضا علي تجاهل تلك المخاطر مفضلين سعادة اللحظة الراهنة علي تحمل مكابدة آلام الوعي بالمشكلة.
وغير ذلك من الأمثلة الكثير، وقد يحتاج البعض بأن ما يصدق علي مريض ضغط الدم، وعلي متعاطي المخدرات، لا يمكن أن يصدق علي المشكلات الاجتماعية، أو البيئية، أو الاقتصادية، أو السياسية باعتبار أن مثل تلك المشكلات بحكم حجمها وشمولية تأثيرها قد تبدو للوهلة الأولي عصية علي التجاهل فضلًا عن التجهيل.
ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، إنها الأكثر قابلية للتجاهل، والأكثر استهدافًا للتجهيل، خاصة إذا ما كانت من نوعية تلك المشكلات التي لا تبدو في اللحظة الراهنة سوي علاماتها المنذرة فحسب.. والحديث في هذا الأمر يطول.
ثالثا:
اتجاه يقوم كلية علي أن تعاسة الإنسان إنما تكمن في نظرته إلي نفسه وإلي العالم، ومن ثم تكمن السعادة في تغيير تلك النظرة، أو بمعني آخر في فهم الإنسان لنفسه وللحياة فهما متفائلا.. "كن سعيدا تر الوجود سعيدا".
ورغم ما يبدو من عدم اهتمام ذلك الاتجاه بدور المجتمع والظروف التاريخية الاقتصادية في تعاسة البشر، فإن بريقه لم ينطفئ أبدا وجاذبيته تتجدد دوما.
كثير ممن يطلبون عونا نفسيا علميا متخصصا للخروج بهم من تعاسة تفوق احتمالهم، يلتمسون نوعا محددا من العون يكفل لهم بلوغ السعادة مجنبا إياهم دفع الثمن المستحق لتلك السعادة المتمثل في معاناة إحداث تغيير ولو جزئيا في الواقع الذي ألفوه رغم أنه كان مصدرا لشقائهم.
أخيرًا..
لعله غني عن البيان أن حديثنا قد انصرف إلي من يعانون تعاسة دون أن يدخلوا تحت مظلة "المرضي" بالمعني الفني للكلمة، وتظل التفرقة بين هؤلاء وغيرهم مهمة بالغة الدقة والخطورة: من هو "المريض" الذي يحتاج تدخلا علاجيا فنيا قد يتجاوز رؤيته بل وإرادته، ومن هو "التعس الشقي السوي" الذي يلتمس عونا للتغلب علي سعادته قد يتمثل في كلمة تنير له طريق وعيه بأسباب لتعاسته قد تكون خافية عليه.