تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
كثيرا ما تنتابنا الدهشة حين نلحظ على أنفسنا أو على غيرنا تبدلا في موقفهم الانفعالي مما يدور حولهم من أحداث، دون أن يطرأ علي تلك الأحداث تغيرا موضوعيا حاسما يبرر الانتقال من تعاسة التشاؤم إلي سعادة التفاؤل. وقد يزيد اندهاشنا إذا ما كنا بصدد سلوك جماعي جماهيري حين تنتقل مشاعر وتصرفات الجماهير من حال إلى حال دون أن يحدث على أرض الواقع ما يبرر هذا التغير وبهذه الدرجة.
ولا ينفي ذلك بطبيعة الحال أن منا من يظل ملتزما بحالته الانفعالية تشاؤما أو تفاؤلا بصرف النظر عما يحدث من تغيرات واقعية من حوله تبرر ذلك التفاؤل أو ذلك التشاؤم، بحيث أن النظرة إلى نفس الحدث قد تبلغ غاية التشاؤم عند فرد معين في حين أنها تكون مدعاة لتفاؤل لا حد له عند غيره.
وأذكر في هذا الصدد خبرة قديمة عشتها في معسكر تعذيب أوري ليمان أبو زعبل.
كنا في معسكر التعذيب شأن بقية البشر منا من هم أقرب إلى التفاؤل ومنا من هم أقرب إلي التشاؤم. أذكر واحدا من الزملاء الذين كانوا يعملون قبل الاعتقال بمهنة التعليم.
كان فنانا مرهفا، أميل للتفاؤل، لكنه كان يبحث عمن يؤكد له صحة تفاؤله وتوقعه بأن الغمة لا بد منتهية، وكنت أراه أياما يستلقي إلى جواري بعد إغلاق أبواب العنبر مرتاحا هادئا أقرب للسكينة والتفاؤل، وفي ليال أخرى أراه حزينا مكتئبا متشائما، واتضح لي أنه في ليالي تفاؤله وسكينته يكون قد التقى أثناء "العمل" بزميل متفائل نقل إليه أن ما نمر به هو ما يطلق عليه بلغة السجون "تكديرة"؛ و أن التكديرة لا تستمر إلا لفترة محدودة محددة سلفا، وأن تلك الفترة توشك أن تنتهي، أما في ليالي التشاؤم والكدر فقد كان صاحبنا يجلس مصادفة أثناء "العمل" بجوار رفيق شديد التشاؤم يؤكد له مستندا إلى وقائع يحفل بها تاريخ النازية و الفاشية أنه لا نهاية للتعذيب إلا حين يقرر النظام الفاشي الحاكم التخلص منا بالقتل، وأن ذللك القتل الجماعي ليس بالمهمة الصعبة، فما أيسر إطلاق الرصاص علي سحين حاول التمرد أو الهرب.
كانت تلك الأحاديث الليلية الهامسة ترهقني كثيرا، و فكرت في انتهاز أية فرصة خلال "العمل" لحل هذا الإشكال المرهق، وتصادف جلوسي بين الزميلين "المتشائم" و "المتفائل" لأدير حوارا هامسا بينهما.
نجح الرفيق "المتشائم" في إفحام الزميل "المتفائل" وتفنيد حججه، مما دفعه إلى القول بأنه حتى إذا كانت النهاية مأساوية بالفعل – وهو مجرد احتمال- وأنه لا سبيل البتة لتلافيها فما الذي يمنع من إتاحة الفرصة لزميل بائس أن يتعلق بأذيال الأمل ليقضي ليلة هادئة، وساق عدة أبيات من الشعر ما زالت عالقة بذاكرتي:
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى
وإلا فقد عشنا بها زمانا رغدا.
جهودنا نحن المتخصصون في علم النفس في مجال التخفيف من اعتلال أمزجة البشر، جهود لم يعد ينكرها أحد، بل انها تعدت في بعض الأحيان حدود التعديل بهدف بلوغ الاعتدال إلى استهداف غايات أخرى تصل أحيانا إلى ما اصطلح على تسميته بغسيل المخ تعبيرا عن استخدام فنيات علم النفس لإحكام السيطرة على الآخر انفعالا ومزاجا وسلوكا.
ولكن التقييم الموضوعي لهذه الجهود يقتضي الامتداد بالنظر إلى خارج الحدود التاريخية و المعاصرة لعلم النفس؛ فموضوع "التعديل النفسي للمزاج" يسبق تاريخيا ظهور علم النفس بقرون عديدة, كما أن الممارسات التي تهدف إلي ذلك التعديل تتجاوز إطار المتخصصين في علم النفس.
لقد أحس البشر منذ كانوا بتعاستهم واضطراب أمزجتهم وتبدت لهم كذلك مظاهر ما يعانيه غيرهم من تعاسة واضطراب مزاج، وضاقوا بذلك الاضطراب، وبما يصحبه من آلام القلق والتوتر، وسعوا ما وسعهم الجهد إلى استعادة اعتدال أمزجتهم وأمزجة المحيطين بهم، وتعددت تعبيراتهم عن ذلك الاعتدال المرجو: من هدوء البال إلى الطمأنينة إلى التفاؤل إلي السعادة،
إحساس البشر إذن بالتعاسة يمتد بجذوره إلي بدايات الوعي البشري، ومحاولاتهم بلوغ السعادة و الطمأنينة بدأت من ذلك التاريخ الموغل في القدم، فحاول البشر استجلاب السعادة والطمأنة لأنفسهم بقراءة الطالع، واستقراء النجوم، ورؤى العرافين، وسحر السحرة. كما لجأوا لمن يتوسمون فيهم طيبة وعلما وحكمة يلتمسون لديهم ما يخلصهم من شقائهم، أومن يقدم لهم وصفة تريحهم من عذابهم، ومن هنا كانت كلمة "الحكيم" إشارة إلى من يتصدون بالدواء أو بالكلمة المطمئنة أو بالنصيحة المرشدة لعلاج علل الجسد والنفس والعقل بل والمجتمع أيضا.
ونستطيع أن نجتهد فصنف تلك السبل التي توصل لها البشر خلال بحتهم عن السعادة وسواء المزاج إلي سبيلين أساسيين تتفرع من كل منها سبل فرعية تزيد أو تقل:
• سبيل يقوم على تغيير الواقع المعاش
• وسبيل يقوم على تعديل الوعي بذلك الواقع
وليس مطروحا في هذا المقام التعرض بالتفصيل للسبيل الأول لتعديل المزاج النفسي، وهو تغيير الواقع المعاش، حيث أنه يقوم بكل تفريعاته على مسلمة مؤداها أن المصدر الأساسي -بل الوحيد- لتعاسة الإنسان إنما يكمن في واقعه الاجتماعي وما يتضمنه ذلك الواقع من ظلم وقهر وتعسف، وأنه لا سبيل للتخلص من تعاسة الإنسان إلا بتعديل تلك الظروف المسببة للتعاسة، وغني عن البيان أن تفصيل جهود البشر لتغيير واقعهم الاجتماعي قد يكون أقرب إلى اختصاص المشتغلين بالاقتصاد، لكنه في حقيقة الأمر يعد مجالا تتشابك فيه اهتمامات العديد من التخصصات العلمية ومن بينها بالتأكيد مجال المشتغلين بعلم النفس السياسي وغيره من فروع علم النفس المختلفة كل وفق موقعه على خريطة الصراع الاجتماعي وموقفه من قوي ذلك الصراع.