تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
نفرق في علم النفس السياسي بين نوعين من الجماعات السياسية، الجماعة المطمئنة والجماعة المهددة؛ ولكل من الجماعتين خصائصها المميزة وأنماطها السلوكية المميزة أيضًا، ولعل أهم ما يميز الجماعة التي تشعر بأن وجودها مهدد إقامتها لأسوار مادية عالية وحوائط فكرية صارمة تظنها تكفل لأبنائها الحماية ممن يتهددون وجودها والتي توقن أنهم أقوى منها وأن ذلك هو السبيل الوحيد لحماية وجودها، هكذا كانت الدلالة الرمزية والمادية لما أطلق عليه “,”الستار الحديدي“,” و“,”حائط برلين“,” و“,”الجدار العازل“,”: كانت تلك الحوائط تعبر عن تشكك هائل في الغرباء، وشيطنة للآخرين، وتوجس دائم من التسلل عبر الحواجز.
ولقد عرفت بلادنا أسوارًا تقام لحماية منشآت أمنية خشية أن تستهدفها مظاهرات جماهيرية حاشدة تسعى لمهاجمتها واقتحامها؛ ولكن ما يستوقف الانتباه هو أن تلجأ جماعة سياسية منتخبة علي قمة السلطة لاستخدام تلك الأساليب الدفاعية.
لقد استوقف انتباهي ما شاهدته مؤخرًا من تحصينات أقامتها جماعة الإخوان لحماية مقرهم الرئيسي بالمقطم: أكياس الرمال لتحصين النوافذ، وحوائط صلبة لتحصين المداخل، وكذلك تعلية الأسوار المحيطة بقصر الاتحادية مقر أول رئيس منتخب وإحاطته بالكتل الخرسانية. واستوقف انتباهي أيضًا تكرار الهجمات على المقر ومحاولات إحراقه واقتحامه.
وشدتني الذاكرة إلى صورة جماعة الإخوان قبل ثورة يناير، لسنوات طوال تعرض أعضاء الجماعة للاضطهاد والمطاردة ولقد عايشت في الخمسينيات كيف كان أولئك المطاردون يلتمسون المأوى والحماية في بيوت مواطنين لا ينتمون للجماعة، كان ذلك التعاطف مع جماعة الإخوان المحظورة المضطهدة يشكل حاضنة مطمئنة للجماعة وأعضائها. وشهدنا عبر سنوات كيف كان اليساريون والليبراليون يشاركون الإخوان في مظاهراتهم الاحتجاجية إدانة لقرارات اعتقالهم ودفاعًا عن حقهم في التعبير، وقد كانت الجماعة آنذاك أميل للتصرف كجماعة مطمئنة تقبل الحوار والتوصل إلى تحالفات وحلول وسطي تكتيكية.
ترى كيف تحولت “,”الجماعة المضطهدة المطمئنة“,” إلى “,”جماعة مهددة“,” بعد أن تولت السلطة؟ كيف تلاشت سريعًا صورة الدكتور مرسي يؤدي القسم بين ثوار التحرير ويدفع بحراسه بعيدًا فاتحًا سترته أمام الجماهير المحتشدة، لتحل محلها صورته محاطًا بالحراسات، وقصره محاط بالكتل الخرسانية والأسوار العالية؟ ألم يكن الأكثر منطقية أن تزداد طمأنينة الجماعة بعد أن حازت على ثقة الشعب؟ كيف استطاعت جماعة محظورة مضطهدة أن تكون أكثر طمأنينة منها بعد أن استقرت على مقاعد السلطة؟
لعلنا لو أمعنا النظر قد نستطيع فهم هذه الظاهرة، الأمر يرجع فيما نرى إلى عجز الجماعة عن القراءة الواقعية لنتائج انتخابات الرئاسة الأخيرة التي أعلنت فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين؛ واستبدلت بها قراءة كارثية أدت إلى الوضع الراهن. لقد كان ثمة قراءتين:
القراءة الأولى
قراءة واقعية تدرك من خلالها الجماعة بالأرقام المجردة أن نصف الناخبين قد حجبوا أصواتهم عنها، وفضلوا أن يمنحوها لمرشح وصفته الجماعة بأنه مرشح النظام السابق، ولكن الالتزام بذلك التوصيف للمرشح المنافس يعني مباشرة أن نصف الشعب المصري ما زال يؤيد النظام القديم، وهو ما يتنافى مع القول بأن ثورة يناير تمثل الشعب والتي اعتبرت الجماعة نفسها ممثلة لها؛ ولم تستطع الجماعة أن تقبل بحقيقة أن الصف الوطني المصري كان منقسمًا بالفعل إلى فريقين سياسيين وطنيين، ولعل عجز الجماعة عن إدراك تلك الحقيقة يرجع إلى أنه يلزمها بالسعي حثيثًا لكسب وطمأنة أولئك الوطنيين الذين حجبوا عن الجماعة أصواتهم توجسًا من توجهاتها، ولكن رأي الجماعة فيما يبدو قد استقر على استبعاد تلك القراءة الواقعية.
القراءة الثانية
وهي قراءة كارثية تقوم على تصوير الأمر باعتبار أن مرشح الجماعة قد اكتسح الانتخابات تمامًا، ما يبرر لها ألا تبالي بتلك “,”الأقلية“,” التي لم تنل أصواتها، بل ولا حتى بأولئك الذين منحوها أصواتهم تحت تأثير اقتناعهم بأن المرشح المنافس يمثل النظام القديم.
ومع توالي الاحتجاجات الجماهيرية أصبحت الجماعة تحس من جديد بأنها جماعة مضطهدة تحيط بها مؤامرات الأعداء، ولكن الاضطهاد هذه المرة أصبح مختلفًا، لم يعد اضطهادًا سلطويًا تلجأ الجماعة حياله لالتماس الحماية لدى الجماهير، بل أصبح “,”اضطهادًا“,” جماهيريًا دفع بالجماعة وهي في السلطة إلى التماس حماية الأجهزة التقليدية للسلطة أو اللجوء إلى التماس الحماية عند أعضائها.