تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
الأمانة التي سيتسلمها أطفالنا العرب أمانة ثقيلة، والسؤال هو: ترى هل أحسنا إعداد أطفالنا لتحمل تلك الأمانة؟ مع التسليم بأنه يستحيل الفصل بين التنشئة الاجتماعية للأطفال، والمناخ الاجتماعي السياسي للوطن وللعالم المحيط. لقد كانت ثقافة جيلنا إفرازا طبيعيا لسمات عالم القطبين الكبيرين.
في ظل العالم القديم، العالم الذي نشأنا فيه نحن الكبار، كان يبدو منطقيًا أن تسود إستراتيجية تنشئة الأطفال - بل والكبار - آنذاك منظومة محددة من القيم لسنا بصدد بيان تفصيلاتها ، وإن كنا نستطيع الإشارة إلى ركنيها الأساسيين المتمثلين في موقع السلطة، وموقع "الآخر" من المنظومة القيمية.
فيما يتعلق بالسلطة فالثقة في قدرات ممثلي السلطة ينبغي أن تكون غير محدودة، ومن ثم فالطاعة غير المحدودة لهم، والاعتماد بالدرجة الأولى عليهم، وتعبير "السلطة" في هذا السياق لا يقتصر بحال علي سلطة الدولة ورموزها, بل يمتد ليشمل كافة رموز السلطة في المنزل والمدرسة إلي آخر تلك السلسلة من المؤسسات الاجتماعية.
أما فيما يتعلق بصورة الآخر فإن الآخر المختلف عنا عدو شرير، والآخر الذي يشبهنا صديق طيب، ولا مجال لوسط بين هذا وذاك، وتعبير "الآخر" في هذا السياق لا يقتصر علي الآخر خارج جماعة النحن العربية، بل يشمل الآخر في كافة تجلياته وصوره حتى ولو انتمى لنفس قوميتنا العربية، بل ولنفس البلد العربي الذي ننتمي إليه.
ولكن دوام الحال من المحال، لقد أفلت شمس عالمنا القديم وتشكل عالم جديد سيكون على أطفالنا عبء التعامل معه، ولقد حاولت أن ألتقط من سمات هذا العالم ما قد ينبغي أن نضعه في اعتبارنا عند تنشئة أطفالنا.
مع انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحنا في ظل ما يطلق عليه عالم القطب الواحد متمثلًا في الولايات المتحدة الأمريكية، عالم يختلف عن ذلك العالم الذي نشأنا فيه نحن أبناء الجيل الحالي، ولعل ما يعنينا، ويعني أطفالنا في المقام الأول أن تلك القوة الأعظم تتخذ موقفا مساندا للكيان الصهيوني الإسرائيلي ليس في مواجهتنا فقط بل في مواجهة العالم قاطبة متمثلا في المجتمع الدولي, في كثير من الأحيان، وهو الأمر الذي ينبغي أن نعد أطفالنا لمواجهته.
ومن ناحية أخرى فإنه في ظل هذا العالم الجديد لم يعد في مقدور أية مؤسسة في أي بقعة من بقاع العالم أن تحجب عن أبنائها أية معلومات تبثها أجهزة الإعلام المحلية أو الخارجية بصرف النظر عن موافقتها أو معارضتها لمضمون تلك المعلومات، تستوي في ذلك الأسرة والمدرسة، بل والمسجد والكنيسة والدولة أيضًا.
لقد أصبح الوقوف عند حد تلقين النشء ما نراه طيبًا والحيلولة بينه وبين الإنصات أو المشاهدة لما يقدمه "الآخر"، أمر غير مجدٍ عمليًا فضلًا عن أنه لم يعد مقبولا في ظل عالم ينادي بالانفتاح علي الآخرين. ومن ناحية أخرى فإن ما يبثه ذلك "الآخر" أصبح يخترق آذانه، ويقتحم مجال رؤيته بعد أن تهاوت قدرات المؤسسات الاجتماعية التقليدية علي الرقابة والتصفية، ولم يعد أمامنا إلا تزويد أبنائنا - بل وأنفسنا - بقيم جديدة وبمهارات جديدة طال العهد بوءدنا لها.
ومن ناحية ثالثة فإن الحديث يتعاظم في عالم اليوم عن دور الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية، بما يعنيه ذلك -بل ويتطلبه- من تأكيد لدور الأفراد والمبادرات الفردية، وهو ما افتقدنا مهاراته طويلًا. ويرتبط ذلك بتزايد الحديث بل والفعل في مجال حقوق الإنسان. و فيما نري فإن ثمة تشابك حتمي بين قضيتي حقوق الإنسان وحقوق الطفل إذ تقوم كلا من القضيتين أيضًا علي التسليم بأن ثمة انتهاك لتلك الحقوق وأن من حق القوة الأعظم التدخل حتى بالقوة.
ولعل الصورة تكتمل إذا ما أضفنا ما تشهده مجتمعاتنا من صراع قيمي، وكذلك ما نشهده ويشهده العالم من حولنا من تزايد لمخاطر العنف.
غني عن البيان أن منظومتنا القيمية القديمة لم تعد ملائمة لهذا العالم الجديد، ونحن مطالبون باستشراف منظومة قيمية جديدة نحاول تزويد أطفالنا بها، ويبدو لي أن أبرز ملامح تلك المنظومة القيمية الجديدة يمكن أن تتمثل في أمرين أساسيين:
أولًا غرس وتدعيم كل ما يساعد علي القبول بالعربي "الآخر": الآخر سلاليا، والآخر دينيا، والآخر فكريا، إلى آخره، ما يتطلب منا مراجعة شاملة لعمل مؤسساتنا الإعلامية والتعليمية والثقافية بحيث يتم التركيز على:
• إتاحة أكبر قدرٍ من المعلومات التي تبرز حتمية التعايش مع الآخر.
• إبراز مهارات الحوار والتفاوض وأهميتها في إدارة التفاعل بين الأفراد في الحياة اليومية.
ثانيًا: تدعيم مهارات التفكير النقدي الابتكاري بما يكفل لأبنائنا القدرة على استكشاف البدائل الجديدة، والإقدام على محاولة ممارستها.