تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
خاطرة تلح على رأسى بنحو زنان وطنان هذه الأيام، وأعرضها– اليوم – غير هازل أو ساخر، وأعنى بها ضرورة إعداد بعض كراسات أو كتيبات تناقش التطورات السياسية المحلية والدولية، تكشف الخفى والمسكوت عنه، رافضة الاستسلام للخطاب الدعائى الذى يشيعه هذا الطرف أوذاك، والذى ليس – بالضرورة – دقيقا أو صحيحا.. وأميل إلى تسمية تلك الكراسات (مبادئ السياسة للسذج والجهلاء) فى إيماء لنوع الذين يستقبلون السياسة المعلنة (Declaratory – Policy) للأطراف المحلية والدولية ويصدقونها غافلين عما يسمى السياسة الفعلية (Action – Policy) .. وأضرب فى ذلك مثالا بدولتى تركيا وإيران اللتين تلعبان أدوارا مهمة فى تشكيل إقليم الشرق الأوسط، وعلاقات القوى السائدة فيه، وتؤثران– على نحو مباشر– فى مصالحنا العربية وبالذات المصرية، فضلا عن مشاركتهما النشطة فى مؤامرة الربيع العربى وعملية يناير 2011 لغزو مصر.
إذ تشكلت نظرة المصريين – حتى النخبويين مدعى الثقافة للدولتين – طوال سنوات استبقت عملية يناير، على نحو خاطئ يستجيب – بحميرية هائلة – لمقولات تضليلية قدمت لنا نموذجى الدولتين بطرق تدخل – بكل ارتياح – فى بند الغش السياسى والإعلامى، لا بل أن بعض كبار الجهلاء من المثقفين وعناصر ما يسمى النخبة – وبالذات فى مصر- أسهموا فى تلفيق وتصنيع صور نمطية زائفة لكل من إيران وتركيا، وبما أسهم فى قيام الدولتين بالتآمر على بلادنا، وسهل مهمتيهما ومكن لهما.
كنا– لسنوات– نستمع إلى من يتكلم عن "التتريك" و"نموذج الإسلام العصرى" الجديد فى تركيا وفكر حزب (العدالة والتنمية) الذى جاء كحل سحرى لمعضلة تناقض الأصالة والمعاصرة فى المربع الإسلامى.
كل هذا كان كلاما فارغا!!
ومع ذلك تبارت حثالة المصريين من الحزبيين والأكاديميين والنشطاء فى التغنى بتلك المعانى خلال عشاءات فاخرة أولم فيها حسين بك عونى سفير تركيا فى القاهرة قبل طرده ليلحق – تاريخيا – بفؤاد طوغاى سفير أنقرة فى مصر زمن 23 يوليو 1952، والذى طردته سلطة الثورة حين لم تعترف تركيا بثورتنا الأم، كما أحجمت عن الإقرار بشرعية ثورة 30 يونيو.
تمرغت رموز النخبة المصرية تحت حذاء حسين عونى– قبل طرده – وذلك من أجل عشاء مجانى، أو دعوة لمؤتمر أو محاضرة أو حلقة بحث فى أنقرة أو استنبول، حيث كانت اللقاءات تلتئم مع رموز التنظيم الدولى للإخوان، والذين اتضحت علاقاتهم بدولة أردوغان شيئا فشيئا، وكان الخطاب العلنى التركى يتحدث – طيلة الوقت – عن جبهة سُنية من تركيا ومصر والسعودية وغيرهم، فى مواجهة شيعية إيران والعراق وسوريا.. وما لم يفصح عنه الأتراك هو أنهم كانوا يريدون مصرا وسعودية من نوع خاص، يتشكل عقب استيلاء الإخوان عليهما وتقويض نظاميهما، وليلتئم الزواج السعيد بين مشروع العثمانية الجديدة التركى، ومشروع الخلافة الإخوانى تحت مظلة مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكى، ومشروع شرق أوسطية بيريز الإسرائيلى لتحالف (التكنولوجى الإسرائيلية والبشر الفلسطينى والمال الخليجى) الأمر الذى لعبت فيه قطرا دورا أساسيا ممثلة لعنصر المال لا غيره بالقطع.
وحتى تلك الجبهة السُنية– فى ذاتها– كانت كذبة حقيرة، إذ ما كادت ثورة 30 يونيو الأسطورية تكنس كل تلك المشاريع المشبوهة، حتى هرول أردوغان إلى طهران أواخر يناير الفائت محاولا بناء وتدعيم العلاقة مع إيران وتعزيزها على أى نحو، وبخاصة مع ما ظهر من تحول دراماتيكى فى علاقة أمريكا مع طهران، وعقد اتفاق إيران مع دول (5+1) فى جنيف نوفمبر المنقضى (وكل ذلك كان من تأثيرات 30 يونيو ورغبة الأمريكيين فى الضغط على تحالف مصر ودول الخليج الذى نشأ فى ظل تلك الثورة الأسطورية).. نعم .. جرى أردوغان إلى إيران يبنى – من جديد – تحالفا معها، وردد أن السياسات الإيرانية والروسية إزاء المشكلة السورية أثبتت صحتها، بعد أن كان وزير خارجيته المتآمر أحمد داود أوغلو يناضل من أجل إطاحة نظام الأسد فى مؤتمر جنيف -2.
ولم يتوقف أردوغان عن ذلك، بل سعى إلى بناء مجلس إستراتيجى أعلى مع إيران، متصورا أننا نسينا قيام تركيا بإقامة مجالس شبيهة مع العراق وسوريا وحزب الله قبل كارثة الربيع العربى التى تآمرت فيها على الجميع تحت عنوان (جبهة سنية موحدة مع مصر والسعودية).. أردوغان – كذلك – عمد إلى تدعيم التعاون الاقتصادى مع إيران، بعد أن بلغ التبادل التجارى بينهما 13 مليار دولار عام 2013 بعد أن كان 22 مليار دولار عام 2012، واستهدف 30 مليار دولار عام 2015.
ولم يك ذلك – بالطبع – كما أشاع أردوغان الكذاب.. لتدعيم العلاقات بين دولتين إسلاميتين كبيرتين، ولكنه بسبب تجديد أوروبا رفضها لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، وعدم وجود منافذ لتصريف المنتجات التركية إلا جنوبا وشرقا فى إيران والمنطقة العربية.
وتحمل أردوغان فى سبيل تحقيق أهدافه النفعية البراجماتية قصيرة الأمد ما وجهته إيران من انتقادات إليه أثناء الزيارة على سماحه لحلف الناتو بنشر بطاريات صواريخ باتريوت على حدود تركيا الجنوبية الشرقية فيما وصف بأنه موجه ضد إيران، يعنى أردوغان قبل غمز إيران فى أطلسيته أو فى الهوية التركية – الأطلسية، حتى لا يضيع نهائيا بعدما تحطمت سفينة عثمانيته الجديدة على صخرة 30 يونيو المصرية، ومن ثم راح يتكفأ إلى طهران ليضع يده فى أيادى الإيرانيين أعدى أعداء مشروعه، وكنا أثناء ذلك الماراثون الطويل نسمع بعض الآراء الخرقاء من مثقفى مصر ذوى الهوى التركى و"القبيضة" من عناصر النخبة الذين اشترتهم تركيا وقطر والتنظيم الدولى للإخوان، يحاولون تبرير كل سقوط تركى، ويجملون وجه أنقرة، ويصدقون (لأنهم يريدون أن يصدقوا) كل ما تريد تركيا أن تشيعه عن نفسها.. ولقد أمطرنا هؤلاء – لسنوات – حديثا عن ديمقراطية تركيا وعصريتها حتى جاءت أزمة ميدان (تقسيم) وما بعدها لنشاهد بأمهات عيوننا فى التلفزيونات سحق شباب المتظاهرين الأتراك تحت أحذية جنود أردوغان لأنهم رفضوا كذبته (المعلنة) عن إزالته "جيزى بارك" لبناء سوبر ماركت أو متحف، فيما كانت الحقيقة هى رغبته فى إحياء قلعة عثمانية كان كمال أتاتورك هدمها فى مطلع القرن الماضى، لكى يحيى معها رمزية (العثمانية) التى يريدها عنوانا لمشروعه السياسى.
أردوغان كان يتحرك بهمة على الرقعة السورية طوال السنوات الثلاث السوداء الماضية، وقد تحالف مع "داعش" – تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام التابع للقاعدة، ضد نظام بشار الأسد (الذى يقول أردوغان اليوم أن خيار بقائه الذى تبنته روسيا وإيران صحيح!)، ومن جهة أخرى فإن "داعش" ضد الأكراد (العدو التقليدى لأردوغان منذ زمن عبد الله أوجلان وحزب العمال الكردستانى).. وعلى عكس ما يحاول بعض العملاء والجهلاء إقناعنا به فى مصر يتقدمهم الولد أستاذ العلوم السياسية الرخو ذو الشارب العجيب الذى يتنطع – يوميا – على شاشة الجزيرة ليهاجم مصر ونظامها وثورتها ورئيسها لصالح تركيا والتنظيم الدولى للإخوان، فإن تركيا البراجماتية غير المبدأية تتورط – الآن – مع الحكومة الإقليمية فى كردستان العراق لسرقة النفط العراقى وبيعه فى الأسواق الدولية فيما ذلك أمر من اختصاص الحكومة المركزية طبقا لنصوص الدستور العراقى.
تركيا سرقت النفط وهو ثروة سيادية عراقية بمساعدة كردستان التى تحاول الاستقلال بموارد النفط مخالفة الدستور، ولما كان العراق منطقة نفوذ إيرانية – بالدرجة الأولى – مع وجود نورى المالكى فى الحكم حتى الآن، والشكوك التى تحوط تشكيله الحكومة لولاية ثالثة، فإن التصرف التركى مع كردستان العراق هو موجه ضد إيران باعتبارها السيد الاساسى لنورى المالكى الذى يعد – تاريخيا – أحد أشهر عملاء طهران.
أينعم هاج حسين الشهرستانى نائب رئيس الوزراء لشئون النفط على تركيا وكلف شركة قانونية (فنسان آند الكينس) بملاحقة شركة بوتاس التركية التى شاركت فى سرقة نفط كردستان أمام غرفة التجارة الدولية فى باريس، ولكن السلوك التركى الحقير بالتحالف مع الأعداء الأكراد والتآمر على ما وصفوه أثناء زيارة أردوغان لطهران بأن التحالف يعكس – بوضوح – لا أخلاقية النظام التركى الذى نظم الجهلاء والسذج والعملاء قصائد مديحه وصوروه بما ليس فيه، وأنشدوا فى تعظيم شأنه والاعتراف بصدقية مشروعه ما لم يراع – حتى – المصالح الوطنية لمصر!!
إيران – كذلك – ليست على النحو الذى تصور نفسها به، والذى استمات عملاؤها فى ترويجه وتسويقه على كل الساحات الإقليمية والدولية.. طهران عقدت اتفاقا مع أردوغان – فى زيارته الميمونة لإيران منذ أربعة شهور – لمناهضة الإرهاب وهو ما لم نتبين معناه أو مغزاه كون الدولتين من أكبر رعاة الإرهاب، سواء إيران عن طريق الحرس الثورى وعملائها المنتشرين فى35 دولة، والمساندة لحزب الله الذى اشترك فى مؤامرة غزو مصر يناير 2011، أو تركيا المشاركة فى مشروع الإخوان الارهابى، والمستخدمة لرعاع وحثالة حماس فى غزو مصر خلال ذات العملية الإجرامية فى يناير 2011.
ثم أن إيران التى تعضد نورى المالكى وتحالف (دولة القانون) فى العراق تتساهل – الآن – وفق مصالحها مع فكرة عدم توليه المالكى الحكومة، وتشكيل ائتلاف يؤيده تحالف الخليج، من جبهة (متحدون) برئاسة أسامة النجيفى، وجبهة (الوطنية) برئاسة إياد علاوى مع بعض أطراف كردية، إضافة – وذلك هو المهم – لبعض تنظيمات التحالف الوطنى الشيعى مثل المجلس الأعلى برئاسة عمار الحكيم، والصدريين بزعامة مقتدى الصدر وجميعا يشكلون 220 مقعدا من إجمالى 328 مقعدا فى مجلس النواب.
يعنى إيران تخلت عن عميلها وقبلت تشارك السلطة فى العراق مع السُنة وضمنهم الأكراد، لأن مصالحها أهم من التزامها المبدأى وكل ما فات يؤكد فساد وخرق وجهل المقولات التى يذيعها ويشيعها عملاء طهران والمتشيعين لها فى القاهرة الذين يصورون إيران على أنها البلد النموذج الذى يغلفه عبير دينى وأخلاقى لا ينبغى لأحد أن يجادل فيه.
ولقد ذكرتنى السطور التى كتبتها– لتوى فى هذا النص- وفكرتى عن إصدار كتيبات وكراسات (مبادئ السياسة للسذج والجهلاء) ببعض ما حدثنى به الكادر الإخوانى الشهير محمد سليم العوا منذ عامين وفى أثناء الاحتلال الاخوانى لمصر، عن فكرة حلف اقليمى يضم تركيا ومصر وإيران، إذ لفتنى عدم التجانس بين أوضاع البلاد الثلاثة مذهبيا، والاختلاف الواضح بين درجات النمو فيهم وتعارض وتقاطع المشاريع الإستراتيجية التى يتحركون فى إطارها.
ولكن النفاذ إلى السياسات الفعلية وعدم التوقف أمام السياسات المعلنة، يخبرنا قولا واحدا بأن ما يجمع إيران أردوغان ومصر الإخوان، وإيران الملالى فى لحظة بعينها كان (عدم المبدأية).