تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
وإذ تحاول مصر أن تستعيد أنفاسها وتنهض، كانت الخلافة العثمانية تلفظ آخر أنفاسها. فبعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وقبلها بسنوات عدة، كانت الإمبراطورية العثمانية قد تآكلت، ولم يبق منها فعليًّا سوى عدة دول أو دويلات وإمارات عربية. وكانت عمومًا تموج بكراهية غامرة ضد الأتراك وتسلطهم ومحاولات التتريك.
وحتى هؤلاء الذين تعلقت إبصارهم بالخلافة كفكرة، ما لبثوا أن انفضوا عنها كراهية في الظلم التركي، ووصل الأمر بمن اعتقدوا أن الخلافة كرمز هي طقس إسلامي لا بد من الالتزام به، من أمثال عزيز المصري وعبد الرحمن عزام، أن دعوا إلى خلافة عربية تنهض بالفكرة وترفض الأتراك، وكان ذلك في بداية القرن الماضي. وهكذا، وبشكل فعلي، أصبحت الخلافة جثة عاجزة تحت وطأة التسلط والظلم والفساد وكراهية الشعوب لها.. ولم يكن ما فعله أتاتورك سوى مواراة جثة هامدة التراب.
سقطت الخلافة. ونُفي الخليفة العثماني. وبدأ في التسول بأمل الضغط إسلاميًّا لإعادته خليفة أو منحه دعمًا ماليًّا ومعنويًّا، وينسى الخليفة المخلوع أن المنصب كان بذاته مطمعًا للكثيرين، وعلى رأسهم الملك فؤاد.. الذي وصلته رسالة استعطاف واستجداء من عبد المجيد فأهملها. لكننا عثرنا عليها ضمن أرشيفات مهملة. ولأنها وثيقة نادرة، ولم تنشر من قبل، وتعبر عن بؤس الخليفة والخلافة؛ فإننا ننشرها كاملة ومعها رسالة ملحقة أرسلها المسكين إلى سعد زغلول رئيس وزراء مصر آنذاك.
· الوثيقة الأولى
إلى حضرة ملك مصر الملك فؤاد:
إني كما ذكرت في منشوري الذي نشرته على العالم الإسلامي، معترضًا به على قرار إلغاء الخلافة غير الشرعي، قد أبعدت عن وطني الذي أسسه أجدادي العظام، وسُفرت إلى سويسرا، وذلك بقرار مجلس الشعب في تركيا بالأكثرية الحاضرة، وقرار حكومة الجمهورية.
إن تحديد إقامتي هنا إلى الآن هو فقط نتيجة لحالة اضطرارية، وهي عدم حصولي على واسطة الانتقال إلى بلد إسلامية. وحيث إن أجدادنا العظام لم يكونوا يفكرون إلا في رخاء الدولة وسعادة الأمة؛ فإنهم لم يجدوا لزومًا لأن يخصصوا لأحفادهم شيئًا من الثروة والإيراد يتركوه لهم، غير بعض المخلفات التاريخية الثمينة التي في خزينة السراي، وبعض الأراضي والأملاك الموجودة في جهات مختلفة من ممالكهم الواسعة. وبما أن المخلفات المذكورة قد صادرتها الحكومة قبل سنة ونصف، وذلك بناء على إلغاء السلطة؛ فإننا عند نفينا وتغريبنا من وطننا العزيز، الذي فتحه أجدادنا ذوو الهمة العالية، لم نجد في يدنا غير المبلغ الجزئي الذي وُزع علينا بصفة مصاريف السفر، وإن أملي في إبراز معاونة فعلية، ولو صغيرة، من جانب ملوك الإسلام وأغنيائه، ليس من الصعب عليهم أن يتصوروا أني في هذه الحالة المؤسفة، سواء كنت أنا أو باقي أعضاء أسرتي الذين تفرقوا في بلاد الغربة، سنتعرض في وقت قريب جدًّا لاحتياج ظاهر حتى أمام الأجانب.
فأمام هذه الحالة المؤلمة، وبقصد التمكن من اجتناب عاقبة أشد إيلامًا، فإني -وبصورة رسمية- جئت قاصدًا ذاتكم الملكية وأسرتكم النجيبة، وبواسطتكم أدعو الحمية الإسلامية وكرم الشعب المصري الأصيل وحكومته الشعبية. وإن تركي أقيم مضطرًّا في هذا الوسط الأجنبي إلى أن يجتمع علماؤنا الحقيقيون وذوو الحل والعقد، الذين سيعدون إن شاء الله الوسائل لتحكيم الجامعة المقدسة الإسلامية التي آلمها الاعتداء الذي حصل، أمر مؤسف جدًّا من جهة صيانة الشرف الإسلامي في نظر الأصدقاء والأعزاء ومؤلم جداً لشخصي.
فبحرمة ما قامت به أسرتي من كل التضحيات في الخدمة الإسلامية المشكورة التي نفتخر بأنها قامت بها قرونًا عديدة، وبحرمة ما أبرز والدي المغفور له من المحبة الفعلية إلى حكام مصر وإلى شعبها الكريم، بحرمة هذه التذكارات الأصلية والمفاخر التاريخية، تتفضلون بمساعدة من يرغب من أعضاء أسرة عثمان المظلومين ورئيسهم الحالي في الإقامة ضيفًا في الديار المصرية، إلى أن تزول هذه الأزمة، ومعاونتهم على حالهم، وإني أتمنى ذلك من جانب ذاتكم السنية، ومن أسرتكم، ومن كرم شعبكم الأصيل، وذلك باسم الأخوة الدينية والحقوق القديمة، وأدعو الله أن يشملكم بتوفيقاته الربانية (22 رمضان 1342).
عبد المجيد عبد العزيز خان
· الوثيقة الثانية
حضرة رئيس نظار مصر سعد زغلول باشا:
مرسل لجانبكم السامي صورة أخرى من ندائي الذي خاطبت به متبوعكم الأفخم وأسرته وكرم الشعب المصري الأصيل ومروءته الإسلامية، والذي أبلغت صورة منه حسب الأصول إلى رئاسة مجلس النواب الوطني المحترم، وبما أن شخصكم السامي هو خادم الأماني القومية المضحي، ورمزها الشخصي، وعضدها المتين؛ فإني على يقين يقينًا لاشك فيه أنكم ستتفضلون ببذل كل نفوذكم وسلطتكم لتعضيد هذا النداء وترويجه؛ إرضاء لعواطف المحبة الإسلامية السامية. وإني أظهر لكم أسمى عواطف التقدير الصميمية.
في 22 رمضان المبارك سنة 1342.
عبد المجيد عبد العزيز خان
.. ولكن ولأن مقام الخليفة، الذي أسمى نفسه أمير المؤمنين، خاقان البرين والبحرين، وحامي حمى الإسلام والمسلمين، لم يكن بذاته يمتلك أيه قيمة فعلية لدى الكثيرين ما دام قد تجرد من القوة والنفوذ والسلطان، بما يؤكد أن موضوع الخلافة كان بذاته موضوعًا سياسيًّا وليس دينيًّا؛ فإن أحدًا لم يهتم بهذا المسكين الذي أصبح متسولاً، وبدأ البعض في محاولة اقتناص المنصب لنفسه، وأولهم كان الملك فؤاد.