ولعل من حق القارئ أن يسأل لماذا هذا الكتاب بالذات؟ وأقول لأنه الأكثر ليبرالية وشجاعة ولأنه أتى من أزهرى ينحدر من أسرة عريقة بما جعله وثيق الصلة هو وشقيقه مصطفى بحزب كبار الملاك العقاريين "الأحرار الدستوريين". ثم لأن الكتاب أغضب الكثيرين فكانت محاكمة مثيرة أمام هيئة كبار العلماء.. وضجيجا مايز بين مواقف الكثير من القوى السياسية.
وبدأ الشيخ كتابه بكلمة لماذا؟ وأجاب بـأن هناك سؤالين ألحا على تفكيره وهما "هل الخلافة أصل من أصول الدين؟ وهل الإسلام أو غيره من الأديان يمكن أن يكون نظاماً للحكم فى العصر الحدث؟ وبدا الشيخ فى إجابته ذا توجهات ليبرالية بامتياز. فهو متعمق فى دراسة الفقه أى أنه من أهل الاختصاص، وليس مجرد واحد من الليبراليين الذين أدركوا قيمة الفكر التجديدي، ولكنه أضاف إلى معرفته بالفقه وبصحيح الإسلام دراسة فى الجامعة المصرية تخصص فيها فى الأدب والفلسفة، ثم دراسة فى أكسفورد مستهدفاً التخصص فى الاقتصاد والعلوم السياسية لكنه قطعها بسبب نشوب الحرب" [د. غالى شكرى – النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث – صـ238] ثم أنه فوق ذلك انتسب هو وشقيقه الشيخ مصطفى إلى مجموعة ليبرالية ضمت عديداً من الشبان منهم محمود عزمى – عزيز ميرهم – د. منصور فهمى – د. محمد حسين هيكل وغيرهم [فهمى جدعان – أسس التقدم عند مفكرى الإسلام – صـ568] وقد بدأت هذه المجموعة نشاطاً فكرياً مهما فنقرأ لمحمد حسين هيكل "ومرت الأيام وأنا أرى فى مدينة النور ألواناً من الحياة تفسح أمام النظر أفق التفكير وتزيد الإنسان إيماناً بحرية العقيدة والرأى، وبأن التعصب ذميم وأن أول واجب للإنسان أن يديم البحث عن الحقيقة" [مجلة اللغة العربية (مجموعة 1962) كلمة شفيق غربال فى تأبين الدكتور هيكل – صـ212] كما قام هيكل بترجمة عدة أجزاء من كتاب جان جاك روسو ونشرها بإهداء "إلى مصر الحرة ، وإلى القلوب الخافقة بمعانى الحرية والعدالة والإخاء" [المرجع السابق – صـ216].
أما الشيخ مصطفى عبد الرازق فقد أصدر مع مجموعة من الشباب الأزهريين الليبراليين مجلة "السفور" لتدعو إلى التجديد فى فهم الدين والحياة. وقد نادت هذه الجماعة إلى تأسيس حزب. ويروى أحد الداعين لتأسيسه وهو محمود عزمى القصة قائلاً: "حدثنى د. منصور فهى عن تأسيس حزب سياسي تحدث بشأنه بالفعل إلى بعض أصدقائه، وتم التفاهم فيما بينهم عليه وعلى الاسم الذى سيطلقونه عليه وهو "الحزب الاشتراكى" ولكننى أقنعته بأن يعدل تسمية المولود الجديد بالحزب الاشتراكى وأن يسمى الحزب الديمقراطى" [محمود عزمى – خبايا سياسية – صـ 36] ونشأ الحزب ولكن وسط خلاف بين مؤسسيه، ونقرأ ما قاله شفيق غربال: "نشأ الحزب فى جو من النشاط السياسى فى إطار ثورة 1919 وحاول ميرهم أن يتجه بالحزب إلى الاشتراكية بينما حاول هيكل أن يتجه به نحو الفردية وكاد الخلاف أن ينهى الحزب لولا تدخل الشيخ مصطفى عبد الرازق للتوفيق بين الرأيين" [مجلة اللغة العربية – المرجع السابق – صـ218] . وتأسس الحزب الديمقراطى يوم 10-9-1919 وعقد الاجتماع التأسيسى فى منزل آل عبد الرازق وأصدر برنامجاً أسمى قانون الحزب جاء فيه "تفويض الشعب سلطته إلى هيئة نيابية تنتخب على أكمل وجه ويكون من إختصاصها التشريع وفرض الضرائب ومحاسبة الحكومة المسئولة أمامها – توحيد التشريع فى حدود مصر وتعميم تطبيقه على كل من يسكن البلاد . [بمعنى إخضاع الأجانب للتشريع المصرى – وأن يكون التشريع وضعياً ومدنياً ويكفل حقوق المسلمين والمسيحيين معاً] – ترقية الطبقات العاملة أدبياً ومادياً وإعانة من لا يستطيع العمل" . [راجع النص الكامل للبرنامج فى الطليعة – عدد فبراير 1965]. ويشرح عزيز ميرهم فلسفة الحزب قائلاً: "إن الحزب لم يأخذ باعتبار أن الديمقراطية مسألة سياسية فحسب بل عدها سياسية واقتصادية واجتماعية ، وعلى هذا لا تعتبر البلاد الأوربية ديمقراطية بالمعنى الصحيح، لأن الشطر الأكبر من الثروة يستأثر به عدد ضئيل، بينما المنتجون الحقيقيون لهذه الثروة محرومون من كد يدهم وثمرة ذهنهم" . [عزيز ميرهم – الديمقراطية – صـ38] .. ولم يدم هذا الحزب طويلاً – إذ ما لبث أن تفرق [راجع تفاصيل نشأة ونهاية الحزب الديمقراطى فى : د. رفعت السعيد - تاريخ الحركة الشيوعية المصرية – الجزء الأول – الطبعة السادسة (1956) – صـ117] .. وعبر هذا المسار الذى أنغمس فيه الشيخ على عبد الرازق أتى كتاب الإسلام وأصل الحكم.