الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

داعش وبقايا الرمزية العثمانية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فكرة (العثمانية الجديدة) التى حاول رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، الاتكاء عليها فى هندسة وضع إقليمى، ودور دولى جديد لتركيا، كانت خرقاء ومفككة إلى درجة دفعت أردوغان إلى محاولة (أسطرة) المشروع، أى اختراع أسطورة تبرره، واستدعائها من أعماق تاريخ مضبب مغبش لا يمكن لأحد الجزم بصحة وقائعه، أو التثبت من دقة دلالاته.. ومن أجل ذلك اعتنى أردوغان – كثيرًا – بتعزيز (الرمزية) فى تأسيسه للعثمانية الجديدة، وبدا ذلك واضحًا – لو تذكرون – فى أزمة حديقة "جيزى"، ومظاهرات ميدان تقسيم العام الفائت، حين تعثر رئيس الوزراء التركى أمام الرأي العام، وارتبك فى تحديد أسباب سعيه لإزالة الحديقة، فراح – تارة – يقول إنه سيبنى مكانها مركزًا تجاريًا ضخمًا، وتارة أخرى يقول إنه سينشئ متحفًا، ثم يؤكد أنه لن يزيلها إلا بحكم قضائى، ثم تبين أنه كذاب أشر، وأنه سعى لإزالة (جيزى بارك) حتى يقوم بإعادة بناء قلعة عثمانية كانت موجودة فى ذات المكان، وأزالها حكم كمال أتاتورك ضمن إطاحته كل الرموز العثمانية التى رآها سنادة لمفهوم الدولة ذات الخلفية الدينية، المخاصمة – بالكلية – منطق العلمانية، وقد جاء ليبنى عليه أسس حكمه فى عشرينيات القرن الماضى.
(رمزية) تلك القلعة كانت جزءًا من محاولة افتعال وجود غير موجود اسمه: (العثمانية الجديدة).. وبالمناسبة فإن مثل تلك المحاولات كانت تلقى احتفالًا كبيرًا من بعض المثقفين المصريين العملاء الذين أسعدهم الالتصاق بأى مشروع سياسى إقليمى أو دولى رأوا فيه ضربًا لتماسك النظام الوطنى قبل عملية يناير 2011، وبخاصة إذا كان ذلك المشروع يحظى بدعم أمريكى فى إطار صيغة الشرق الأوسط الواسع الإجرامية، وقد كانت تركيا نموذجًا حاضرًا لذلك النوع من المشاريع.. ولطالما شهدت دار حسين بك ( السفير التركى الذى طردته مصر منذ شهور) منافسات بين الجواسيس والعملاء من أعضاء النخب المصرية، فى التهتك السياسى والابتذال الثقافى، والتنظير والتسويق لأفكار (التتريك) و(النموذج التركى)، مع النزول على ركبة ونصف، وهز الصدر وقصع الظهر (وبالمناسبة كانت حكاية هز الصدر اختيارية فى ذلك السياق).. وفى الصباحات التى تلت العزائم والكرائم التركية تناثرت المقالات والدراسات التى تتغنى بجمال التجربة التركية، ووصلت الدعوات وتذاكر السفر لمؤتمرات وندوات استامبول وأنقرة إلى رهط المعجبين بتلك التجربة التركية.. وصرنا نتابع فصولًا هزلية من ذلك كله عبر الإنشاد للنجاح الاقتصادى التركى دون أن يذكر أحد حجم الديون المترتبة على النمو السريع الذى حققته أنقرة، أو احتياج تركيا لفتح أسواق لمنتجاتها، وهو ما دفعها إلى محاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، فلما زجرها فاليرى جيسكار ديستان بعبارة أن الاتحاد الأوروبى هو (نادٍ مسيحى) عام 2002 تحول اهتمامها نحو الجنوب والشرق، ومحاولة الهيمنة على مصر والشام – بالذات – لتصبحا سوق الصناعات التركية الرائج، بعدما تعثر الأتراك فى إيران لحزمة من الأسباب، وهو ما حاول أردوغان علاجه فى طهران أواخر يناير المنصرم بعدما انخفض التبادل التجارى بين البلدين من 22 مليار دولار عام 2012، إلى 13 مليار دولار عام 2013، فيما كان المستهدف عام 2005 هو 30 مليار دولار.. ولم تسع الهرولة الأردوغانية إلى طهران – فقط – للبحث عن سوق ينفذ مشروعه الاقتصادى الذى بدا قاربًا مثقوبًا، ولكنه كان – كذلك – محاولة للالتحام بوضعية طهران الصاعدة بعد اتفاق جنيف المبدئى حول الملف النووى الإيرانى مع مجموعة (5+1) فى ديسمبر الماضى.. وضمن محاولة الجرى المتكفئ نحو طهران كانت جهود أردوغان لافتعال فاصل مع منظمة (داعش) الدولة الإسلامية فى العراق والشام، إذ تقف إيران ضد كل التشكيلات المعادية للنظام السورى (جبهة النصرة+ الجيش السورى الحر + داعش) فيما كانت تركيا تبنى علاقة قوية مع داعش لسيطرته على مناطق متاخمة للحدود التركية/ السورية، ومن ثم إمكانية استخدام وجوده معبرًا إلى الأراضى السورية إذ رأت تركيا التدخل العسكرى، ومن جهة أخرى فإن داعش كانت – دومًا – فصيلًا قابلًا للاستخدام ضد الأكراد (العدو التقليدى لتركيا)، وأخيرًا فإن (داعش) هى سند أساسى للإخوان الإرهابيين فى مصر وعدد آخر من الدول على نحو يدعم ويعزز التحالف (التركى / الإخوانى).. وعلى رغم كل المبررات القوية لعلاقات تركية قوية وإيجابية مع داعش فإن تركيا حاولت – أحيانًا – الظهور مستقلة عن إلزامات تلك العلاقة، بل وقام الطيران التركى بطلعات ضد (داعش) بعد اتهامات لها بتجاوز الحدود، ولكن أهم ما جرى فى ذلك السياق كان تهديد وزير الخارجية التركى أحمد داود أوغلو باتخاذ كل "الإجراءات اللازمة"، إذا تم المساس بضريح سليمان شاه فى منطقة عين العرب بمحافظة حلب السورية بعدما ألمحت "داعش" إلى تحطيم الضريح لمخالفته معتقداتها التى تلزمها بإزالة الأضرحة.
لماذا قررت تركيا المضى إلى ذلك المدى فى حماية الضريح؟
لأنه يمثل (الرمزية) العثمانية التى يبنى عليها حزب العدالة والتنمية الأردوغانى مشروعه للعثمانية الجديدة، إذ أن سليمان شاه كان ابن "قتلمش" ووالد "أرطغل"، أبو عثمان باشا مؤسس الدولة العثمانية عام 1299.. ويعتبر ضريح سليمان شاه أرضًا تركية داخل سوريا وفقًا لاتفاق وقعته أنقرة مع فرنسا عام 1920، ومن ثم فإن حامية عسكرية تقوم بحراسة ذلك الضريح (300 جندى + 12 مركبة + ست دبابات)، والشيء المدهش أن تركيا بدلت مواقفها الثابتة مع عدد من القوى الفاعلة فى الأراضى السورية وفقًا لدور أى منها فى حماية الضريح أو (الرمزية) العثمانية.. فهى دخلت إلى منطقة "منبج" الموازية للحدود (التركية/ السورية) فى عين العرب تحت حراسة حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى (بى. واى. دى) يعنى تحت حراسة أعداء تركيا!، وليس ذلك فقط، وإنما مصحوبًا – كذلك – بقوات من "داعش" التى تتربص بالضريح الدوائر، والتى وجّه لها داود أوغلو إنذارًا مباشرًا وكاد يعصف بأركان التحالف مع ذلك التنظيم.. لا بل إن تركيا – كما وضح من خلال التسريبات التى ذاعت قبيل الانتخابات البلدية أرادت استغلال حجة حكاية ضريح سليمان شاه ذريعة للتدخل العسكرى فى سوريا، واستخدام "داعش" من جانب أنقرة فى ذلك السياق وارد، كون مثل تلك التنظيمات الإرهابية الإسلامية لا تهتم – كثيرًا – بالسيادة فى بلادها ويمكنها أن تفتح الحدود لأى طرف ما دام يرتبط بفكرتها البلهاء عن الخلافة الإسلامية.. التنظيم الارهابى "داعش" ورقة تلعب بها تركيا كيفما شاءت (ضد النظام السورى) و(ضد إيران والتنظيمات الموالية لها أحيانًا) و(ضد الأكراد أحيانًا).. وتعاديها أحيانًا وتقصفها بالطائرات، وتستعملها أحيانًا أخرى إذا تعرض ضريح سليمان شاه لمساس، إذ يبقى ذلك الضريح هو إحدى علامات (الرمزية) للعثمانية الجديدة، وتتغاضى "داعش" أمامه عن معتقداتها بهدم الأضرحة لتفتح أبواب حلب لأى تدخل تركى فى سوريا، مطيحة بمعانى (الوطنية) فى سبيل وهم (الخلافة)!.