تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
نشأت التخصصات في علوم الدين، وكذلك المذاهب الدينية المختلفة، تالية لنشأة واكتمال الدين ذاته، بل وبعد رحيل من حمل إلينا الرسالة من السماء إلى الأرض. ينطبق ذلك على ديننا الإسلامي الحنيف كما ينطبق على غيره من الديانات السماوية؛ بل وكذلك -بصورة قد تبدو مختلفة- على العقائد الأيديولوجية الشاملة، التي لم يزعم لها أصحابها صلة ما بوحي تلقاه منشئها من السماء، كالماركسية أو البوذية أو الكونفوشوسية.. إلى آخره.
وإذا كان استيعاب كتاب بشري متخصص، أيًّا كان نوع تخصصه، يحتاج إلى من يقوم بتبسيطه لكي يصل إلى عامة البشر، ولا يجد صاحب النظرية العلمية حرجًا في أن ينسب له العامة غموض نظريته وقصور أفهامهم عن استيعابها؛ باعتباره قد طرح فكرة متخصصة لأقرانه من المتخصصين، ومن ثم لا يجد أحد من العامة حرجًا في أن يطلب من مدرس للفيزياء مثلاً، أو متخصص في تبسيط العلوم، أن يشرح له نظرية النسبية أو الفيمتوثانية، كما أن أحدًّا لا يجد حرجًا في أن يوصف بأنه غير متخصص في الفيزياء؛ وبالتالي فليس له أن يتوقع النظر إلى رأي يبديه في هذا المجال باعتباره حقيقة، أو حتى فرضًا علميًّا جديرًا بالفحص والاختبار، وإذا ما اختلف علماء الفيزياء، مثلاً، في قضية معينة تدخل في نطاق تخصصهم، لم يجدوا بأسًا في الإعلان عن اختلافاتهم والاحتكام إلى التجربة العلمية فيصلاً نهائيًّا فيما كانو فيه يختلفون.
ترى هل يمكن أن تنطبق مقولة “,”التخصص“,” بهذا المعنى المحدد على كتاب سماوي موجه للبشر كافة دون تمييز بين العامة والمتخصصين؟ وبصرف النظر عن الإجابة؛ فإن شواهد الواقع العملي التاريخي تجسد حقيقة أن كافة الأديان -دون استثناء- عرفت ظاهرة “,”المتخصصين“,” في تفسير الكتب المقدسة وسير الأنبياء.
والجميع يعرف أيضًا ما نجم عن ذلك من نشأة الفرق والمذاهب، التي يتفق أصحابها على قدسية النص الإلهي، وأنه موجه للبشر جميعًا، كما يتشابهون في القول بأنهم الأكفأ والأقدر على التوصل للتفسير الصحيح لمقاصد ذلك النص، ثم يختلفون بعد ذلك في تأويلاتهم للنص المقدس، وقد تصل خلافاتهم تلك إلى حد التكفير، بل والتقتيل، وقد تلتزم حدود الاختلاف الفكري، ولكنها لا تتنازل قط عن تمايزها، فلم يعرف التاريخ قط اندماجًا فكريًّا لمذهبين أو فرقتين دينيتين بحيث يذوبان في بعضهما ويتبنيان فكرًا واحدًا، كما يحدث أحيانًا في مجال الأحزاب والفرق السياسية.
ولعل الأمر كان محدودًا بدرجة أو بأخرى في عصر وسائل الاتصال الشفاهية والمكتوبة، ولكن في ظل عصر ما يعرف بالانفجار الإعلامي، وما تضمنه من يسر غير مسبوق في بث المعلومات واستقبالها، كان من الطبيعي أن تتعدد القنوات والبرامج الدينية؛ ومن ثم تتعدد الفتاوى الدينية بل وتتضارب في كثير من الأحيان، ويصبح الكثير من العامة في موقف فكري مربك.. إنهم حريصون على تبين الرأي الديني “,”الصحيح“,” في أمور حياتهم، وهم في نفس الوقت لا تتوافر لديهم المعرفة المتخصصة التي تمكنهم من المفاضلة بين الفتاوى؛ وبذلك لا يصبح أمامهم سوى واحد من تلك السبل:
•الاعتماد على تقديرهم الذاتي لشخص الداعية وجاذبيته الإعلامية وسمعته الشخصية.
•الاعتماد على مدى اقتراب “,”الفتوى“,” من استعدادهم وتكوينهم النفسي.
•الاعتماد على مدى اقتراب “,”الفتوى“,” من توجهاتهم السياسية.
•الاعتماد على ما تحمله “,”الفتوى“,” من تبرير لممارساتهم الحياتية الفعلية.
•أن يولي المرء ظهره لتلك الفتاوى جميعًا، وأن يقدم على مخاطرة “,”التفسير الذاتي“,” للنص المقدس، وهو ما يلجأ إليه البعض.