تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ونحن في رحاب الجامعة، بينما ستينيات القرن الماضي تنسحب من أوراق التقويم الميلادي، وتتأهب سنوات السبعينيات للإمساك بزمام الزمن، كنا نقول: إن الكتاب يؤلف بمصر ويطبع في لبنان ويقرأ بالسودان، وكانت العامية المصرية متصالحة مع اللسان العربي على امتداد خريطة دول المنطقة، وبينما كانت القيم المصرية تحتل موقعًا أثيرًا فيها، كانت مصر نقطة الانطلاق والتحقق للمبدعين العرب؛ أدبًا وفنًا وصحافة وسينما ومسرحًا، وانعكس هذا على العلاقات البينية في الشارع المصري.
وحين جاء الدور على العقد السابع ليسلم الزمن للثمانينيات، تداهمنا هزيمة يونيو لتصدم الحلم المصري وتزلزل مركز الدائرة وتنقله بعيدًا وتلقى به في أحضان متصحرة انتقلت إلى نادي الأثرياء على حساب جراح الهزيمة، ليحق فيها القول “,”مصائب قوم عند قوم فوائد“,”، كان الجرح غائرًا ومميتًا لو أنه أصاب غير مصر، بحضارتها توأم الزمن.. لكان الاندثار والزوال مآلها..
تمر السنوات ثقيلة وقد استفاق اليمين السياسي وتحالف مع اليمين الديني، ومعًا يؤسسان لعصر البترودولار والبتروعقيدة، ويعيدان تشكيل الذهنية الشعبية، بعد أن وجدت الهجرة المؤقتة لجحافل العاطلين والبسطاء طريقها إلى دول الخليج، ويهجر الفلاح أرضه وتختل موازين الإنتاج لحساب اقتصاد الريع، وتنتصر القيم الاستهلاكية ومعها العقل النقلي، وتنسحب القيم المصرية بالتتالي، وتنطفئ مشاعل التنوير لتسود قيم التسطيح، إلى حد كراهية تاريخنا والتبرؤ من جذورنا، وتتفاقم الأزمة مع خلجنة مصر لغة وملبسًا ومحاكاة معيشية، وفي ثنايا هذا تنسحب الوسطية المصرية، وتغشانا القراءات المتصحرة للنصوص الدينية، والأنساق الأحادية، وعندما ينتقل بعض من الأثرياء الجدد إلى طبقة اجتماعية جديدة، نشهد المدن الجديدة المغلقة ذات الأسوار العالية وأبواب الحراسة، في انقلاب على المدن المفتوحة، بل في التصميم المعماري أيضا، تختفي الغرف المفتوحة على الصالة التي تترجم الحميمية وروح الأسرة، وتظهر الغرف المعزولة عن غرفة المعيشة، وتتجذر الفردية وروح الانعزال، ومعها تتفشى ظاهرة “,”أطفال المفاتيح“,”، ويختفي معها اجتماع الأسرة للعشاء أو الغذاء معًا.
وغير بعيد تقف الصراعات الدولية وتوازناتها ومصالحها في المنطقة، بئر الطاقة المنزوح، والطوق المرصود والمهدد لإسرائيل، أول كيان يقوم على المرجعية الدينية بجلاء، ونجد تحالفًا جديدًا بين لاعبي الخارج واللاعبين المحليين في دول الطوق لتعميم نموذج الدولة الدينية.
في الحقبة الخليجية هذه تستعر المواجهة بين الكيانات البترولية ودول الهزيمة، بين الصحراء والنهر، بين العقل النقلي والعقل النقدي، ويجد حلم إحياء الخلافة فرصة عمره للتحقق، بعد أن تلقى هزائم تنويرية متتالية، خلال القرنين الماضيين، وخاصة بعد إعلان سقوط دولة الخلافة 1923، ومحاولات لملمة أشلاء التفكك بتأسيس جماعة الإخوان 1928، ثم الانقلاب على المد الديمقراطي الذي تجلى في دستور 23، بإلغائه بمرسوم ملكي وصدور دستور 1930.
وقد “,”أسس“,” كوادر الإخوان الفارّون من استهداف الحقبة الناصرية إلى أحضان الخليج لهذه المواجهة، وقد احتضنتهم العائلة المالكة بالسعودية ووظفتهم في صراعها التاريخي مع عبد الناصر، وكونوا ثرواتهم ورتبوا أوراقهم، وتفاعلوا مع أجهزة سيادية تتجاوز الإقليم والقارة، وسيطروا على منظومة التعليم هناك واستقدموا جحافل من المعلمين المدرسين المصريين ليشكلوا جيش الخلاص، وأسسوا لما أسموه الاقتصاد الإسلامي بنفس أدوات ونظريات الاقتصاد العالمي بعد أن استبدلوا المسميات لتتفق مع طرحهم، في مخاتلة واضحة، وسجدوا شكرًا حين نزلت الهزيمة بمصر، وقزموا مصر وهانت عندهم لينزلوها من عليائها ويضحوا بها على مذبح حلمهم المفارق للحضارة والتاريخ لتصبح ولاية في دولتهم الأممية.
ما يحدث اليوم غير منقطع الصلة بهذا الصراع، بل هو حلقة فارقة فيه، فبعد أن قفز الساعون لإحياء الخلافة على ثورة يناير واعتقلوها خلف تنظيماتهم الفاشية، لم يتوقفوا لحظة عن السعي للسيطرة على مفاصل تشكيل الوعي الجمعي والذهنية الشعبية. وقراءة المشهد تؤكد هذا، فقد انقضوا على الإعلام والثقافة مؤسسيًّا وما زالت المواجهات دائرة وعصية عليهم، وما زالوا يغازلون ويحشدون البسطاء والفقراء وقود النظم الديكتاتورية والفاشية دومًا، في توظيف انتهازي للفقر والجهل -بل قل الإفقار والتجهيل- لحساب مخططهم.
ولا يتوانون عن توظيف تقنيات التواصل والإعلام في بث تكتيكاتهم في مفارقة لافتة، لكنهم لم يلتفتوا إلى المخزون الحضاري المصري الذي يرفض الأحادية، عبر خبرة التعدد والتنوع والاندماج العريقة والمتجذرة، ولا يقرءون التاريخ ولا يستوعبون دروسه، ولم يدركوا في غلوهم وغرور اللحظة إبداع الشباب المصري في 25 يناير، والذي تجدد في مباغتة مبهرة في دعوة “,”تمرد“,” التي وجدت استجابة شعبية عارمة لعبقرية الدعوة واللحظة.
وقبل يومين حشدوا (الإخوان وحلفاؤهم) من محافظات عدة آلافًا من عناصرهم، سخروا لهم خدمة التوصيل والإعاشة، ليتفاجئوا بشباب يتجاوزهم بغير حشد؛ يهزون فضاء المنطقة المحيطة بوزارة الدفاع، فيما يمكن تسميته بلغة أهل المسرح “,”بروفة جنرال“,”.. وأخيرًا لم يصدقوا أن الخوف غادرنا ولن يعود، وصموا آذانهم عن إبداع أبي القاسم الشابي:
إذا الشّعْبُ يَوْمًا أرَادَ الْحَيَـاةَ.. فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا.. بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر