السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

أوهام الهوية الإسلامية المتخيلة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

دعتني إدارة «معرض الدوحة الدولي للكتاب» لإلقاء محاضرة في قطر عن «الإسلام السياسي والتيارات الأخرى»، وذلك يوم الإثنين 17 ديسمبر الماضي، وشاركني في المحاضرة الأستاذان: «نبيل عبد الفتاح» و«ضياء رشوان»، وهما من أقدر الباحثين في مجال الحركات الإسلامية المعاصرة.
وقد ظننت –كما قلت في بداية محاضرتي- أن مهمتي في الحديث عن تيار «الإسلام السياسي» سهلة ميسورة، بحكم متابعتي البحثية لنشأته وتطوره وانحساره. وقد ضمنت أبحاثي التي نشرتها منذ أواسط التسعينيات في كتاب لي أصدرته عن «المكتبة الأكاديمية» في القاهرة (عام 1996) كان عنوانه: «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة»، وخرج في جزئين: الأول بعنوان «نقد العقل التقليدي»، والثاني بعنوان «أزمة المشروع الإسلامي».
تبين لي صعوبة المهمة؛ لأن الإسلام السياسي أصبح منذ ذلك الزمن ظاهرة تُناقش تجلياتها في عديد من قارات العالم، بما فيها القارة الأوروبية، التي تلعب فيها جماهير المسلمين المهاجرة إليها دورًا هامًّا في نشر أفكاره والتحرك في مجال السلوك الفعلي تحت شعاراته.
ومن ناحية أخرى، لأنه من مفارقات التاريخ أنني كتبت في التسعينيات عن «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر» في خضم حوار ممتد تم بيني وبين الدكتور «أحمد كمال أبو المجد»، المفكر الإسلامي المعروف، حول بيان أصدره باسم مجموعة من المثقفين الإسلاميين عام 1992 بعنوان: «رؤية إسلامية معاصرة»، وحوار ممتد آخر بالغ الأهمية بيني وبين الشيخ الجليل الدكتور «يوسف القرضاوي» عن حلم استرداد نظام الخلافة الإسلامية، وتمت هذه الحوارات على صفحات جريدة الأهرام ابتداء من 30 مايو 1994.
وكان نقدي الأساسي للرؤية المعاصرة المقترحة أنها لا تضيف أي جديد، وأن وصفها بالإسلامية فيه تجاوز شديد؛ لأن مفرداتها عبارة عن ترديد وإعادة إنتاج لعدد من المسلمات الليبرالية حول محاسبة الحاكم والحكم في ظل الشورى، أو الديموقراطية بالمعنى المعاصر.
أما حواري مع الدكتور القرضاوي فقد دار حول حلمه باسترداد نظام الخلافة، وهو ما رأيته يجافي حقائق العالم المعاصر، وأنه حلم لا يستقيم؛ لغموض أركان نظام الخلافة ذاته، لو أريد إعادة إحيائه اليوم.
وحين كتبت عام 1994 كانت الحركات الإسلامية في العالم العربي تمر بمحنة شديدة، بعد أن دخلت الجماعات والأحزاب المعبرة عنها في صدام عنيف مع الأنظمة السياسية العربية في عديد من البلاد، وتحول هذا الصدام العنيف إلى صدام دموي بعد أن ظهرت حركات إسلامية إرهابية، مثل حركة «الجهاد» في مصر، و«الجماعة الإسلامية»، التي مارست أنواعًا شتى من الإرهاب العشوائي، ليس ضد السلطة فقط، بل ضد المواطنين الآمنين، مسلمين كانوا أو أقباطًا، وفي بعض الأحيان ضد السياح الأجانب، والتي يمثل الحادث الإرهابي في «الأقصر»، الذي قتل فيه خمسة وأربعون سائحًا أجنبيًّا، ذروة من ذرى العنف المسلح الذي تمسح بالإسلام زورًا وبهتانًا.
وقد نجحت الدول العربية جميعًا، بعد تضحيات هائلة، في قمع الإرهاب؛ بعد القبض على زعماء هذه الجماعات وعلى أعضائها والحكم بالسجن عليهم وإيداعهم بالسجون. وبعد ذلك، من خلال حوار بين السلطة المصرية وبين زعماء هذه الجماعات، تم الإفراج عنهم، وأصدروا كتبًا متعددة أطلق عليها «المراجعات»، مارسوا فيها النقد الذاتي لمنطلقاتهم الفكرية الخاطئة. وقد قمت بدراسة نقدية لحوالي عشرين كتابًا من كتب المراجعات نشرتها بعنوان «آلية القياس الخاطئ والتأويل المنحرف»؛ لتحديد لماذا انحرفت أفهام هؤلاء الإرهابيين في تفسير الآيات القرآنية.
لقد كتبت في مقالة لي بعنوان «أزمة المشروع الإسلامي المعاصر» (عام 1994) ما يلي: “,”يمر المشروع الإسلامي بأزمة لا شك فيها. ونقصد بهذا المشروع الحركة الإسلامية التي ظهرت في ربوع الوطن العربي منذ أكثر من ستين عامًا. وربما كان الإخوان المسلمون -بحكم انتشارهم في عديد من البلاد العربية- هم الممثلون الرواد لهذه الحركة. والأزمة التي نتحدث عنها لا تتعلق فقط بالسلوك العملي لأنصار هذا المشروع، الذي جعلهم يصطدمون بالسلطة في عديد من البلاد العربية صدامًا داميًا في بعض الأحيان، بل هي في المقام الأول أزمة تتعلق بالمنطلقات النظرية لهذا المشروع، ورؤيته للعالم، وبنظرته إلى نفسه، وباتجاهه إزاء الغير“,”.
لم أكن أدري بالطبع في ذلك الوقت (عام 1994) أنه بعد ثمانية عشر عامًا من هذا التاريخ، وبعد ثورة 25 يناير 2011، سيخرج قادة الإخوان المسلمين من السجون وينطلقون –بعد أن شاركوا بأيام في الثورة- مع بقية التيارات السياسية الأخرى في مسيرة المرحلة الانتقالية من السلطوية إلى الديموقراطية، وإذا بهم ينجحون في اكتساح الانتخابات البرلمانية، ويحصلون -مع حزب النور السلفي- على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى، ليس ذلك فقط، بل ينجحون في الاحتشاد وراء الدكتور «محمد مرسي»، رئيس حزب «الحرية والعدالة» الإخواني المرشح لرئاسة الجمهورية؛ حتى نجح –وإن كان بصعوبة بالغة- أمام خصمه الفريق «أحمد شفيق»، ويصبح رئيسًا للجمهورية!
وكان المفروض منطقيًّا أن المشروع الإسلامي المعاصر، الذي تحدثت عام 1994 عن أزمته -بعد أن نقدت منطلقاته النظرية، وأهمها حلم أنصاره بإحياء نظام الخلافة- أن تكون هذه الأزمة قد انتهت، بعد أن تحول زعماء الإخوان المسلمين، الذين كانوا يقبعون معتقلين في السجون، ليصبحوا هم حكام البلد في مصر، إلا أن دهاء التاريخ أدى بهم ألا يركزوا على مشكلة وجودهم الفاعل في الساحة، ولكن على المخاوف الكبرى من فشلهم التاريخي في حكم مصر، بحكم تجاوزاتهم الشديدة ضد دولة القانون وضد الديموقراطية، واتجاههم إلى الاستئثار والسيطرة والهيمنة المطلقة على مجمل الفضاء السياسي المصري.
وليس أدل على ذلك من اصطدامهم الأحمق بمؤسسة القضاء واتجاههم لتقويض سلطة القضاة، وإسراعهم في صياغة مشروع معيب للدستور يجري حوله استفتاء مضاد للقواعد الدستورية وترفضه كل القوى السياسية.
وهذا الفشل التاريخي المحتمل يُرد –في أحد أسبابه- إلى حلم قديم للشيخ «حسن البنا»، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، يتمثل في إحياء نظام الخلافة الإسلامية.
وقد عبر عن الإيمان المطلق باسترداد هذا «الفردوس المفقود» الشيخ «القرضاوي» في الحوار الذي دار بيننا عام 1994 بعد أن كان قد نشر مقالًا عبر فيه عن حلمه.
وقد طرحت عليه في الحوار عدة أسئلة لكي يجيب عليها، وهي كما يلي:
هل سيتولى الخليفة منصبه بالتعيين أم بالانتخاب؟ ولو كان بالتعيين من الذي سيعينه؟ هل هو «مجلس المجتهدين» الذي اقترحه؟ أم أنه -إيمانًا بقواعد الديموقراطية- سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطيًّا؟
وتظل هناك أسئلة أخرى:
إذا كان سيتم انتخاب الخليفة ديموقراطيًّا، فمن له حق الترشيح؟ وهل لا بد أن يكون من رجال الدين -مع أنه لا كهانة في الإسلام ولا احتكار في معرفة الشريعة- أم أن أي مواطن عادي يمكنه الترشيح؟ وهل سيتم تداول السلطة، بمعنى أنه سيتغير الخليفة كل فترة زمنية، أم أنه ما دام قد جلس على كرسي الخلافة فلن ينزل منه أبدًا؟
وسؤال أخير خطر لي:
ماذا سيفعل الشيخ «القرضاوي» مع الملوك والرؤساء الذين يحكمون اليوم؟ هل سيفصلهم من وظائفهم حتى تخلو الساحة للخليفة المنتظر؟
وقد تفضل الشيخ «القرضاوي» ورد على تساؤلاتي في مقال كتبه ونشره في جريدة الأهرام، بتاريخ 2 أغسطس 1994، بعنوان: «تعقيب حول مقال الإمبراطورية والخليفة»، وقال ردًّا على تساؤلي عن كيفية إحياء نظام الخليفة: إنه لم يفصل في الحديث لسببين -وأنا أقتبس من كلامه: “,”الأول أني لم أكتب بحثًا عن نظام الخلافة والنظام السياسي في الإسلام، وإنما كتبت مقدمة عن الأمة المسلمة باعتبارها حقيقة لا وهمًا، والثاني أنه ليس من حقي أن أحتكر هذا التفصيل لنفسي، إنما هو حق الأمة ممثلين في أهل الحل والعقد فيها، تختار ما تراه أنسب لظروفها ومرحلة تطورها“,”.
هكذا تكلم الشيخ «القرضاوي» عن «الهوية المتخيلة لأنصار الإسلام الإسلامي»، ومن الواضح أنها مشروع مثالي يتجاهل واقع النظام الدولي، ويستهين بالمزاج العالمي السائد الذي لا يقبل بسهولة تأسيس دولة دينية منغلقة في عصر انفتاح العولمة!