يفيض التاريخ البشري بما لا حصر له من بحور الدماء التي سالت لتجسيد مثل ذلك الحلم على الأرض في صورة الدولة العقائدية أي تلك الدولة التي تقوم على تصور نظري مسبق اكتملت صياغته من قبل، وتظل الدولة ملتزمة بها أو محاولة ذلك خلال ممارستها العملية لدورها.
ورغم أن الحلم بعالم أفضل هو القوة المحركة لأي تقدم إنساني أو تغيير اجتماعي فإن الأمر يصبح مأساة حقيقية حين تتحول الدعوة إلى تحقيق ذلك العالم المثالي المنشود من الكلمة والإقناع إلى القهر والإجبار ومحاولة دفع البشر قسرا وسوقهم بالسلاسل إلى تلك الجنة الموعودة.
ويشهد عالمنا المعاصر تزايدا ملحوظا لأفكار وممارسات ترفع رايات ذلك الحلم القديم بتوحيد العالم.. نشهد تصاعدا لجماعات إسلامية هدفها البعيد المعلن منذ انهيار دولة الخلافة العثمانية يتمثل في السعي إلى إقامة "الدولة الإسلامية" التي قد تختلف الرؤى وتتباين حول تفاصيل ملامحها؛ ولكنها تتفق على كونها دولة عقائدية عالمية ذات قيادة مركزية، ونشهد كذلك انتشارا للدعوة لتديين السياسة يكاد يشمل العالم كله، ويكفي أن نشير في عجالة إلى ما يجري في الولايات المتحدة لنكتشف أن حلم الدولة العقائدية لا يقتصر على الشرق فحسب.
صرح الرئيس بوش في أوائل سبتمبر 2006 في اللقاء الذي جمعه في البيت الأبيض بكتاب وصحفيين محافظين، أن الولايات المتحدة تشهد الصحوة الدينية الثالثة في تاريخها، وأن المناخ الثقافي العلماني الذي كان سائدا في الولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات قد ولى، بما يعني أن التغيرات الثقافية التي يمر بها المجتمع الأمريكي منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن، يمكن أن يطلق عليها "عودة أمريكا إلى ربها". و يتفق ذلك التوجه مع ما نص عليه مثلا البرنامج السياسي للحزب الجمهوري في ولاية تكساس للعام 2006 على أن أحد أهدافه هو "تبديد أسطورة فصل الدين عن الدولة".
وتعتبر قضايا مثل قضية استخدام الرموز الدينية في احتفالات أعياد الميلاد (الكريسماس) والإجهاض، وإقامة الصلاة في المدارس العامة، وزواج المثليين، والصراع ما بين الدين ونظرية النشوء والارتقاء لدارون، وإجراء البحوث العلمية ذات الأبعاد الأخلاقية من أكثر القضايا التي تثير انقساما على المستوى السياسي والثقافي في المجتمع الأمريكي خلال السنوات السابقة.
ويستهل غينغريتش نوت غينغريتش الرئيس السابق لمجلس النواب الأمريكي فصول كتابه المعنون "إعادة اكتشاف الله في أمريكا" الصادر عام 2009، بمقدمة بعنوان "الخالق والرأي العام الأمريكي" قائلا: إنه لا يوجد هجوم على الثقافة الأمريكية أكثر خطرا وأشد فتكا من جهود اليسار الأمريكي العلماني لإزاحة وإبعاد الله من حياة الشعب الأمريكي. وضرب الكاتب مثالا على ذلك بقرار محكمة الاستئناف التابعة للدائرة التاسعة عام 2002 والتي اعتبرت أن عبارة "بسم الله" أو "في ظل الرب" "under God" التي تستخدم في سياقات ومناسبات رسمية وفيدرالية عديدة، هي عبارة غير دستورية. وأضاف غينغريتش أن هذا المثال يوضح إلى أي مدى بلغت الإهانات الموجهة لهوية الأمة الأمريكية.
وأضاف غينغريتش أنه ولجيلين من أجيال الأمريكيين، فقد قبلنا إهانات النظام القضائي لقيم الأغلبية في الولايات المتحدة. لكن الوقت طبقا للكاتب قد حان للإصرار على اختيار القضاة الذين يفهمون التاريخ وطبيعة المجتمع الأمريكي ومواجهة محاولات اليسار العلماني الذي سعى خلال الجيلين السابقين إلى هدم الأساس الذي بنى الآباء المؤسسون عليه المجتمع الأمريكي. ويشدد المؤلف على أن الجهود الراهنة لإبعاد رؤية الآباء المؤسسين لدور الدين عن الحياة العامة للأمريكيين هي المعركة التي يجب أن يخوضها الأمريكيون الآن، معتبرا أن قاعات المحاكم والفصول الدراسية هي مركز وساحة المعركة، حيث إن هذين المكانين هما اللذان شهدا التحول الذي فرضه العلمانيون على أغلبية المجتمع الأمريكي.